ناصر، ابني الأوسط، يقول لي دائماً إن رؤيتنا للألوان قد لا تكون متطابقة. ناصر يعتقد، من منظور فلسفي ربما، أن اللون الذي أسميه أنا أحمر، قد يراه هو لوناً أصفر، لكنه يسميه أحمر بحكم المعلومة التي انتقلت إليه من «المعرفة الجمعية»، ناصر يعتقد أنني أرى اللون «محل النظر» أحمر، وهو يراه أصفر، وعُمر يراه أخضر، وريما تراه أزرق، وطلال يراه رمادياً، لكننا اتفقنا جميعاً على أن «الأحمر» هو اسم هذه «الصبغة»!
قد يكون ناصر محقاً، وقد لا يكون كذلك، لكنني دائماً وفي كل جولة سؤال أجيبه بأنه ليس من المهم أن نتفق على رؤيتنا الداخلية غير القابلة للترجمة وغير القابلة للمشاركة مع الآخرين، لكن علينا أن نتفق هنا على مسألتين رئيستين: تأثير وتفاعل اللون مع الموجودات المحيطة به لا يختلف من رؤية إلى أخرى، واتفاقنا على تسمية واحدة «لرؤى معزولة غير قابلة للمشاركة» هو ما يُبقينا على اتصال موثوق مع عالم «المعرفة والإدراك».
يتمتم ناصر في كل مرة بكلمات غير مفهومة، ثم يسأل، لماذا تحتفظ المجتمعات الغربية بتعريفين متضادين لقيمتي «الصدق والحقيقة»، الأول داخلي والثاني خارجي؟ ولماذا تكيل حكومات الدول الغربية مسألة حقوق الإنسان بمكيالين مختلفين؟ لماذا تهتم بهذه الفضيلة في بلدانها بينما لا تلقي لها بالاً في البلدان الأخرى؟ لماذا تنتهك حكومات الغرب في مناسبات كثيرة، حقوق الإنسان في الدول التي تحتلها أو تدخل معها في حرباً؟
وأجيب: حريات «التعبير والتفكير والاختيار» ومفردات حقوق الإنسان لا يفرضها النظام السياسي على مجموع الناس، ولا يدعو لوجودها في أي مجتمع، كل هذه الفضائل من صنع النظم الاجتماعية المتطورة، هي من تقرر وجودها وهي من تختار أدواتها وهي من ترسم آلياتها، وما يفعله النظام السياسي في أي دولة هو حماية هذه الفضائل مختاراً أو مضطراً، لتحقيق مكاسب سياسية خالصة.
والأنظمة السياسية الغربية مطلوب منها، وجوباً، تفعيل الحريات المدنية داخل أقاليمها، لأن ذلك يحمي بالضرورة فرص نجاحها في الانتخابات المقبلة، ولأن عدم القيام بهذه المهمة، كفيل بإسقاطها في بضع إجراءات معروفة سلفاً، لكنها في المقابل ليست معنية بالدفاع عن حقوق الإنسان في «نظم اجتماعية بعيدة»، لا تمتلك حق انتخاب أو إسقاط هذه الأنظمة، وليس لها – على الأغلب - تأثير على الأوضاع السياسية في الدول الغربية.
الأنظمة السياسية الغربية تستخدم أسطوانة حقوق الإنسان في الدول الأخرى، حينما تكون نغمات هذه الأسطوانة متوافقة مع تردد مصالحها، وتصرف النظر عنها بلا تردد حينما تتعارض مع مصالحها، هكذا لا أقل ولا أكثر.
توماس فريدمان، الكاتب الأميركي المعروف، نشر مقالتين مؤخراً عن حاجة أميركا «للصدق والحقيقة» لإنقاذ ديموقراطيتها، ولو كان ابني ناصر أميركياً «جمهورياً» لطلب من فريدمان (ذي الهوى الديموقراطي) أن لا يخلط بين تعريف «الصدق والحقيقة» في الفضاء السياسي وتعريفها في فضاءات النظم الاجتماعية، ولطلب كذلك من فريدمان (الأميركي الجنسية) أن لا يفرّق بين تعريف «الصدق والحقيقة» في أميركا وتعريفها في الشرق الأوسط وذلك من أجل إنقاذ العالم.
*كاتب سعودي