لا تتوقف دلالات الاتفاق الذي وُقع مؤخراً بين أذربيجان وأرمينيا، طرفي الصراع المباشرَين، وإنما تمتد إلى السياسة الروسية التي توسطت للتوصل إليه وضمنته، أما بالنسبة لطرفي الصراع فلا شك أن الاتفاق جاء انتصاراً لأذربيجان بترجمته ما تحقق لها من إنجازات في ميدان القتال إلى حقيقة سياسية وقانونية، لذا وصف الرئيس الأذربيجاني الاتفاق بأنه «تاريخي». وهو ما يتسق مع وصف رئيس الوزراء الأرميني للاتفاق بأنه «مؤلم جداً له شخصياً وللشعب الأرميني»، وبرر موافقته عليه بأنه «اعتمد على تحليل متعمق للموقف في جبهات القتال ونقاشات مع أفضل الخبراء في هذا المجال». 
ومن الواضح أن أرمينيا قبلت الاتفاق نتيجة تدهور وضعها القتالي، بدليل ما قاله زعيم أرميني في ناجورنو كاراباخ من أنه لم يكن هناك مفر من وقف إطلاق النار، خصوصاً بعد سقوط ثاني كبريات مدن الإقليم واحتدام المعارك في ضواحي أكبر مدنه، وأنه في حالة استمرار القتال كان الإقليم سيسقط بكامله، وكانت الخسائر ستصبح أكثر بكثير. وبطبيعة الحال، فإن الحسابات العسكرية الرشيدة المؤلمة شيء والتوجهات العاطفية للرأي العام شيء آخر، لذلك أعقبت الاتفاق موجة من الاحتجاج الشعبي العارم تضمنت اقتحاماً لمقار البرلمان ومجلس الوزراء والقيام بأعمال تخريب فيها، نظراً لما هو معروف من قيمة تاريخية للإقليم بالنسبة لأرمينيا باعتبار الغالبية العظمى من سكانه من الأرمن، وإن ظل تابعاً لأذربيجان بعد تفكك الاتحاد السوفييتي حتى أعلن انفصاله عن أذربيجان وخضع لسيطرة أرمينيا منذ عام 1994.
غير أن دلالات الاتفاق لا تقف عند حد طرفيه المباشرَين، وإنما تمتد لأطرافه غير المباشرة، وفي مقدمتها روسيا التي أرى أنها لم تربح من هذا الاتفاق، رغم أنها راعيته وضامنته، وذلك استناداً إلى علاقتا بكل من أرمينيا وأذربيجان، صحيح أن لها علاقة شبه متوازنة معهما، وأنها مصدِّرة للسلاح إلى كليهما، لكنها تحتفظ بقاعدة عسكرية في أرمينيا، والبلدان عضوان في منظمة «ميثاق الأمن الجماعي» التي تقودها روسيا، وينص الميثاق على أن تحصل أرمينيا على دعم روسيا في حالة تعرضها لأي هجوم، لكنه لا يشمل ناجورنو كاراباخ والمناطق الأذربيجانية الأخرى المحيطة به، والتي كان الأرمينيون يسيطرون عليها منذ 1994 باعتبارها قانونياً مناطق تابعة لأذربيجان وليس لأرمينيا، غير أنه سبق للسياسة الروسية أن أيدت انفصال أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا عن جمهورية جورجيا واعترفت باستقلالهما عنها عام 2008، كما ضمت شبه جزيرة القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا في عام 2014، لذلك فإن السخط الشعبي الذي طال مؤسسات الدولة في أرمينيا لا بد أنه امتد أيضاً إلى حليفتها روسيا على الأقل من منظور أن التطورات أثبتت عدم جدوى التحالف مع موسكو في قضية حساسة كهذه. ولعلها السابقة الأولى من نوعها منذ تولي بوتين رئاسة روسيا، فقد اتبع على الدوام سياسة هجومية أعادت لروسيا كثيراً من مكانتها الدولية، ونشير في هذا السياق إلى تدخله العسكري الذي أنقذ سوريا وحكومتها، ثم في ليبيا لدعم جيشها الوطني.. وفي كل هذه السوابق دليل على نجاح مطرد لسياسته، لكن هل يكون الاتفاق الأخير نقطة بداية في تآكل لعبة التوازن التي أجادتها روسيا على مدار العقد الحالي؟