قبل أسابيع قليلة، صدرت بدار جداول ببيروت، ترجمةٌ رائعةٌ لكتاب فيلسوف الدين الكندي الشهير تشارلز تايلور وعنوانه: عصر علماني، وهو واحدٌ من عشرات المؤلّفات الكبرى خلال ثلاثين عاماً الأخيرة، والتي ظهرت جميعاً على حواشي ظواهر «عودة الدين». وهذه المؤلفات التي افتتحها عام 1971 فيلسوف القانون الأميركي جون راولز بكتابه «نظرية العدالة»، تُراجع وتُعيدُ النظر في مخرجات قرنٍ كاملٍ عن علائق الدين بالدولة والمجتمع، وعن الإمكانيات الفكرية والعملية للتكامل وصنع الخيارات في النظم الفلسفية والسياسية والاقتصادية، والتوجُّه العامّ لتلك المؤلّفات الكبيرة العودة للمقاربات القيمية والأخلاقية التي تأسَّس عليها نظام العالم (العلماني) بعد الحربين العالميتين الهائلتين. 
في كتالب راولز، والذي تصدر منه قريباً أيضاً ترجمةٌ متقنة إلى العربية، هناك تفكيرٌ شاسعٌ في الإمكانيات الأخلاقية لنظام العدالة وحكم القانون في الأنظمة الليبرالية الغربية. وقد أثار حركةً تأليفيةً ونقاشيةً غنية، شارك فيها معظم مفكري الغرب الكبار، واشتهرت من ضمن ذلك الحراك الفكري والسياسي والقانوني أعمال وملاحظات كلٍّ من الفيلسوف الألماني الكبير يورغن هابرماس، والمفكر الاقتصادي الكبير والحاصل على جائزة نوبل أمارتيا صَنْ، وكلٌّ من هؤلاء وعشرات غيرهم كانت المسألتان الدينية والأخلاقية حاضرةً في أعمالهم، ومن ذلك «تداولية» هابرماس الشهيرة، بشأن المجتمع المدني العالمي، والدولة الدستورية الجديدة المفتوحة للجميع على هامش سقوط الشمولية السوفييتية، وتفاقُم ممارسات الغلبة الأميركية.
أما بول ريكور وغادامر فقد خاضا في تأويليةٍ كبرى لعلائق الفكر بالواقع والتكنولوجيا والأخلاق المدنية والأُخرى ذات الأصل الديني. 
كانت مدرسة فرانكفورت اليسارية، وهابرماس آخِر أعلامها، قد تتبعت «غربة» الإنسان ذي البُعد الواحد، والنزعة الأداتية لحضارة العصر وعصر العالم، وما وجد راولز (وحتى هابرماس) داعياً لهذا التشاؤم المحضّ، وبخاصةٍ أنّ الشموليات تتجه للتضاؤل، وأنّ إنسانية الإنسان تجد لنفسها منافذ كثيرة، على الرغم من تخريبات اقتصاديات النانو والرقميات، وهو الأمر الذي أكدّه الاقتصاديون الكبار مثل ستغلتز وأمارتيا صن اللذين لا تعجبهما اقتصاديات السوق «المدمِّرة»، ولا الصراع المنقطع النظير على الموارد والمجالات. 
لكن ظواهر عودة الدين، ما ارتبطت بظهور الإحيائيات فقط، بل ارتبطت أيضاً بتعملُق ذهنيات الهوية والشعبويات، في الأديان، ما بقي خارج الثورات غير الكاثوليكية، وقد اقترنت حركات الهوية الثائرة دينياً وإثنياً، اقترنت أو ارتبطت بالعنف وبالشعبويات الجارفة، التي اخترقت الأنظمة السياسية في العالم الغربي، وفي البلدان الآسيوية الكبرى. 
وهكذا، ففي حين كان المفكرون يتأملون في كيفيات أنسنة الديمقراطيات والأنظمة السياسية بعامة عن طريق «أخلاق السلام»، وإعادة النظر في التداخل بين الدين والأخلاق، فإنّ الشعبويات اجتاحت الأنظمة السياسية، ذات التقاليد الديمقمراطية، والأخرى ذات الماضي الشمولي، شعبويات الهوية، سواء أكانت دينية أم إثنية، تكره الغريب والمهاجر، وتكره الملوَّن، بل وتكره الليبراليين واليساريين والخُضر حتى لو كانوا شديدي البياض! 
لا يمكن اعتبار الرئيس ترامب أو الرئيس ماكرون، ذوي حساسية دينية من أي نوع، ومع ذلك فإنّ الرئيس ترامب ركب موجةً شعبويةً صارت عندها أيديولوجيا للقطيعة، لكن ما لم يحصل في فرنسا بعد حصل في هنغاريا وإيطاليا وبعض الدول الإسكندنافية، في «الهوية والعنف» يقول إماراتيا صن: إنّ ذهنيات الشعبويين صعبة الالتقاط والتحليل، لكنها قوية الوجود وعدوانية.
إلى أين يتجه العالم؟ ليست هناك صداماتٌ عالمية، لكن الفوضى تضرب أطنابها، والحروب الصغيرة كثيرة، وكذلك المجاعات، أما التأمليات المنفتحة للمفكرين فلا أحد يُصغي لها.

*أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية