كأنما كانت جريمة فيينا تنقصنا ليكتمل المشهد؛ فالذين قاموا بالجرائم ليسوا من أبناء المسلمين الفرنسيين أو النمساويين أو الكنديين، بل أُناس مرسَلون من خارج الجاليات عملياً، وهم يستهدفون المدنيين السائرين في الشارع، والمصلّين في الكنائس! هل يفعلون ذلك هم ومَنْ أرسلهم لأنّ الهجوم على المدنيين والكنائس أسهَل؟!
بالطبع تتضرر هيبة السلطات عند الهجوم على مواطنيها، لكنّ الضرر الذي يرجو المجرمون إلحاقه إنما هو بالعلاقة بين المسيحيين والمسلمين، والتي تحسّنت كثيراً في عهد البابا فرنسيس وشيخ الأزهر أحمد الطيب، واللذين التقيا مراراً بالفاتيكان ومصر، وأصدرا وثيقة الأخوة الإنسانية من أبوظبي في 4 فبراير عام 2019، والأمر الآخر الذي يريد الأمنيون والاستراتيجيون والجماعات السرية إثباته، هو أنّ بعض المسلمين ما يزالون «قروسطيين» يعادون الحداثة، ويريدون ردَّ الأمر إلى صراعٍ بين المسيحية والإسلام، وهو تخلُّفٌ ما بعده تخلف، فالأوروبيون، ورغم استيقاظ بعض مشاعر الهوية لدى فئاتٍ منهم، ليسوا مسيحيين بالمعنى الذي يكون عليه المسلمون مسلمين!
لا يمكن اعتبار المسلمين الفرنسيين مسؤولين عن جريمة الشيشاني أو التونسي، باعتبار أنهم لا يستطيعون مَنْعَهما، لكنّ التنظيمات الضخمة، سواء أكانت مع الحكومة أو مستقلة، تستطيع العمل بفعاليةٍ أكبر لمنع العنف وإدانة ثقافته، كما تستطيع العمل أكثر على تغيير صورة الإسلام في أوساط الفرنسيين، وبخاصةٍ أنهم مندمجون ويشاركون في الحياتين الاجتماعية والسياسية في فرنسا، وما من أحدٍ من الفرنسيين المسلمين يمارس العنف، لكن كيف يسمح بتجنيد وتحشيد الشبان متدينين وغير متدينين؟! وإذا كانت مشاعر المسلمين قد انجرحت في قصة «شارلي أبدو»، فلماذا لم تنهض إحدى الجمعيات الإسلامية بمهام دعوى قضائية على المجلة وإثارتها؟ قالت وزيرة خارجية نيوزيلاند: «عندما يصرح أحدٌ بشيء ضد السود يتهمه الجميع بأنه عنصري، إذا صرّح ضد اليهود يُعتبر بحكم القانون معادياً للسامية وتتم محاكمته وإدانته، أما إذا أُهين المسلم أو أُهينت المرأة فإنّ أحداً لا يأبه باعتبار «حرية التعبير»! عليكم أن تأبهوا، أَوَ لم تسمعوا بحديث الرسول صلى الله عليه وسلم عن السفينة الواحدة، ومسؤوليات ركّابها على اختلاف وظائفهم ومصالحهم؟ّ فحرية التعبير وحرية التصرف مقيدتان بعدم نزول الضرر بالآخرين نتيجة ممارستك لحريتك، وهو الذي بيّنته في النصوص المتتالية التي كتبتُها إذ كان القصد وضع الأمور في نصابها لجهتَي التأثير والمسؤوليات، فالنُخَب الإسلامية في فرنسا تستطيع التأثير أكثر منا، لكن المسؤوليات شاملة وعلى الجانبين: إنكار العنف وإدانته، والتأثير على السلطات الفرنسية لكي يظل الأمر محتملاً، ولا يشعر ملايين المسلمين بأنهم محاصَرون بين الحكومة والمتطرفين!
والهيئات الدينية بفرنسا مسؤولة، وهي التي يُتّهم أئمتها ومدرّسوها بأنهم يأتون من بلدانهم الأصلية حاملين بذورَ التطرف. 
بيد أننا في البلدان الإسلامية مسؤولون أيضاً، ففي السنوات الأخيرة صار العنفُ يُوَّردُ إلى هناك، ولئن كانت الهيئات الدينية في مجتمعات المسلمين قد نهضت بأعباء مكافحة التطرف، والبيانات والإعلانات مع الشركاء العالميين، فإننا نحن المثقفين مسؤولون إذ تتركز خصومتنا على الهيئات الدينية عندنا، بحجة أنها لا تفعل ما فيه الكفاية للخلاص من الموروث التراثي العنيف! 
جاء في القرآن الكريم: «فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلاّ قليلاً ممن أنجينا منهم واتّبع الذين ظلموا ما أُترفوا فيه وكانوا مجرمين». و«أولو البقية» هم أهل التأثير والحكمة في منع الفساد، والقرآن الكريم يخبرنا أنّ القلة منهم مَن يتحملون هذه المسؤولية، وذلك لسببين: التردد أمام المتطرفين ومرتكبي الفساد، والتردد أمام الذين ظلموا من المترَفين الذين يمارسون الفساد بطرائق أخرى غير طرائق الغُلاة والمتطرفين، فيكون علينا مواجهة هاتين الفئتين ليسلم لنا ديننا وتسلم مجتمعاتنا، وحياتنا مع العالم.