أكثر من سنة مضت على احتجاجات الحراك الشعبي في لبنان، المطالِبة بوقف هدر أموال الدولة، ومكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين، واسترداد الأموال المنهوبة.. تساقطت خلالها مقدرات الدولة وأوراقها النقدية على رصيف تسويف المبادرات وتهريب الدولارات. ورغم ذلك لم تتوافر بعد حتى الآن معلومات دقيقة وشفافة عن حجم الأموال المهربة والبلدان المودعة أو المستثمرة فيها. وإذا كانت منصات التواصل الاجتماعي تكشف عن 320 مليار دولار مهدورة يجب تحصيلها من الفاسدين، فإنه وفق تسريبات «سويس ليكس» لقائمة 100 ألف حساب مصرفي في الفرع السويسري لبنك «أتش أس بي سي»، يحتل لبنان المرتبة 12 برصيد للعملاء اللبنانيين يزيد على 5.8 مليار دولار. مع العلم بأن هناك أموال واستثمارات غير معلن عنها توطّنت في سويسرا مستفيدةً من «السرية المصرفية»، وقد تجاوزت التريليون دولار، معظمها أموال جُمعت من استثمارات غير مشروعة، ولوحظ أن بعض المودعين قد مات دون أن يتمكن ورثتهم من الحصول على تلك الثروات.
ومن الطبيعي أن تستفيد هذه الأموال من الوسائل المتاحة، مع ازدياد مشكلة التحويلات المالية غير المشروعة حول العالم، ومنها وضع أموال نقدية ومجوهرات وسبائك ذهبية خارج المصارف، وتأسيس شركات وهمية، وشراء عقارات بأسماء أقارب أو مقربين، إضافة إلى تبييض الأموال. لذلك يلاحظ أن حكومات دول كبرى تعجز عن تتبع الأموال المنهوبة، رغم استخدامها بما تسمح به اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.
وبغض النظر عن الوقت الضائع في زواريب السياسة اللبنانية، فإن تهريب وتحويل الأموال ما زال يحتل حيزاً واسعاً في خطاب السياسيين. ويأتي في هذا الإطار تعميم مصرف لبنان رقم 154 الذي طلب من المصارف حث عملائها على استعادة 15% من الودائع التي خرجت من لبنان منذ منتصف العام 2017، على أمل أن يوفر ذلك تدفق مليارات الدولارات، تساعد في تعويم خزينة الدولة التي أفلستها السياسات المالية. هذا مع الإشارة إلى أن التحويلات المشار إليها في تعميم المصرف لا تعد مخالفةً قانونية، وبالتالي لا يمكن اتهام أصحابها بجرم لم يرتكبوه، وقد يذهب بعضهم إلى مقاضاة مصرف لبنان والمصارف في الخارج، إذا خرقوا «السرية المصرفية». لذلك لجأ التعميم إلى كلمة «حث» العملاء، بمعنى أن قرار التنفيذ يعود لهم.
وبالاستناد إلى إحصاءات جمعية المصارف، يتبين أنه يمكن تقدير الأموال التي خرجت من لبنان خلال الفترة التي حددها التعميم بـ3564 مليون دولار، أكثر من 80% منها موظفة في خمسة أسواق (سويسرا، فرنسا، لوكسمبورغ، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة). ووفق إحصاءات بنك التسويات الدولية، يمتلك مصرف لبنان احتياطيات صافية لدى المصارف في العالم بنحو 14711 مليون دولار، وإذا أضيفت إليها التزامات المصارف التجارية البالغة سلبياً 3200 مليون دولار، يكون لديه 17911 مليون دولار. ونتيجة العملية الحسابية لتطبيق التعميم (في حال تجاوب العملاء)، تتوقع الجمعية عودة فقط 521 مليون دولار في الحد الأقصى. وهو مبلغ ضئيل جداً، خلافاً لما يتوقعه بعض السياسيين إرضاءً للمجتمع الدولي.

*كاتب لبناني مهتم بالشؤون الاقتصادية