استوقفتني طويلاً فكرة النكتة والتنكيت كأحد الأمور التي لم أفكر فيها مطلقاً كـ«موضوع» جاد، وذلك أثناء قراءتي لرواية «الهدنة»، لقد تمكن «واسكويولا» وهو أحد أصدقاء بطل الرواية من الحكي عن هذا الموضوع، بطريقة حساسة للغاية. إذ يجتمع بطل الرواية -الذي تدور قصته بعيداً تماماً عن موضوع النكات- بصديقه «واسكويولا» بعد مرور 30 عاماً على مرافقته له في الحي عندما كانا صغاراً ويافعين، يلتقي به على أمل استعادة تلك الأوقات الضاحكة التي كان يتألم فيها من شدة الضحك على طرافته وعلى طريقته الجادة جداً في حكي تلك النكات!
 ولكن كعادة «اللقاء الثاني» وخصوصاً بعد مرور زمن طويل، يأتي قاسياً جداً، ليس بمعنى القسوة المؤلمة من الموقف، وإنما قسوة مفاجأة الفرق بين ما كُنا نطمح وبين ما يتحقق في الواقع. جاء «واسكويولا» ثقيلاً جداً، على كل الأصعدة. كان ثقيلاً في الوزن وثقيلاً في الحضور، وثقيلاً في النوادر التي يحكيها، والتي كان يضحك عليها بثقل «وحده»! ففي رواية الأوروجواياني «ماريو بنديتي» التي ترجمها بجمال بالغ صالح علماني، يفرد بطل الرواية «مارتين» صفحة كاملة من مذكراته اليومية ليحكي تحليل «واسكويولا» عن تحوله خلال العقود الثلاثة الماضية من شخص طريف جداً إلى آخر سمج ثقيل الظل! وكيف أن جعبته فرغت بعد أن كان مبتكراً لنكات أصيلة، ومن ثم تحوله إلى مكرر لها، وبعد فترة أصبح يضيف القليل لتلك النكات التي توقِف من حوله عن الضحك عليها، ثم أصبح هو الوحيد الذي يضحك عليها في محاولة يائسة منه لإقناع مستمعيه بأنها مضحكة، مستجلباً شفقة من حوله لمشاركته!
 تناول «مارتين» بطل الرواية -الأرمل المقبل على عامه الخمسين- حالة «واسكويولا» منفصلاً تماماً، عن حاله. لم يحاول مناقشة أنه هو نفسه كان في السابق مستعداً للضحك حتى السقوط على الأرض بمجرد أن يسمع صراخ «واسكويولا» فقط. هذا الانفصال الذي نحدثه بعمد عندما نقارن أحوال الآخرين، كيف كانوا وكيف صاروا، هو القسوة بعينها. القسوة التي نلقيها على الآخرين ونحمي أنفسنا منها بتعمّد، أو ربما بجهل حقيقة أننا لم نعد كما كنا سابقاً. لقد فقد «مارتين» تماماً الاستعداد السابق للسرور والبهجة، كما فقد «تماماً» صديقُه حسَّه الظريف.