أعلى درجات الاضطراب، هي تلك التي يصدق فيها الشخص أوهامه، ويرى أنها حقائق لا تصد ولا ترد. يكاد المتابع للمشهد التركي في تعاطيه مع فرنسا في الأيام الأخيرة يدرك الحالة التي أصابت أردوغان، والذي حاول ولا يزال تحويل دفة المعركة القائمة بينه وبين الفرنسيين سياسياً، إلى معركة عقائدية، يعمل جاهداً على تضمينها بقية العالم الإسلامي. تستدعي أزمة الصور المسيئة التي جرحت شغاف قلوب العالم الإسلامي في أعز قيمهم الروحية، وقفة عقلانية، قبل الدخول في عمق الزيف التركي المحدث. بداية لا يمكن القبول بأي ادعاء يخلط بين حرية الرأي والتعبير، وبين إهانة المقدسات لأي أمة أو شعب، وعليه فإن الإصرار على نشر تلك الصور القبيحة من جديد، أمر لا يمكن الصمت عليه، ولا بد له من مواجهته بالعقل والعدل، عبر الطرق المشروعة قانونياً، والدروب المسلوكة أدبياً، لا من خلال المزايدات الواهية والمفرغة من أي سند أخلاقي أو ركيزة إنسانية، تعطي مبرراً للتصدي والتحدي.
قضية أردوغان في مواجهة فرنسا قضية خاسرة، فأردوغان تسبقه سمعة بلاده التي كانت وبالاً وظلاماً على العالم العربي، ولم تكن «نصرة الدين» الحنيف أبداً شغله الشاغل، بل نهب ثروات تلك الشعوب الفكرية والمادية. من القديم إلى الحديث يدرك العالم أن أيادي أردوغان ملطخة بدماء المسلمين، من بغداد إلى دمشق، ومن صنعاء إلى طرابلس، وعليه فبأي وجه حق يحاول إظهار البطولات الوهمية لنصرة الإسلام والمسلمين؟
سياسات أردوغان هي راعية الإرهاب، وحامية للجماعات الأصولية لا سيما«الإخوان»، الحاضنة التي خرجت من رحمها كافة التنظيمات الراديكالية سيئة السمعة الموغلة في دماء المسلمين، هو من يشاغب عقول الدهماء والعوام عربياً وشرق أوسطياً، بحلم ملامسة عتبات الخلافة المزعومة، ويجد في الإشكالية الفرنسية مأربه وغرضه.
الراسخون في العلم يدركون أن أنقرة لديها مع باريس معركة ذات أطراف متعددة، في مقدمتها أن بلاد الفرنسيس اليوم باتت تمثل عقبة كؤود في مسارات ومساقات الغرور والغطرسة الامبراطورية التركية، حتى وإنْ كانت وهمية، فباريس تقف اليوم بالمرصاد لنزعات أردوغان في شرق المتوسط ناحية اليونان وقبرص من ناحية، وهي التي كادت تشتبك معه عسكرياً بالقرب من سواحل ليبيا، رافضة تصدير الإرهاب وتهديد استقرار دول جنوب المتوسط، واستغلال مصادره الطبيعية من ناحية ثانية.
ومن أهداف المعركة التركية الوهمية، محاولة تحريف الأنظار عن المقاطعة الاقتصادية، التي تتعرض لها بلاده، وجعل العيون والأذهان تتركز على مقاطعة أيضاً وهمية لفرنسا، وهو من يدرك تمام الإدراك أن بلاده وبحسب المعارضة التركية لن تقو على ذلك أبداً ففي عام 2019 وصلت أرقام التبادل التجاري بين أنقرة وباريس 14.7 مليار دولار، في حين يتطلع وزير خارجية أردوغان «مولود جاويش»، لرفع هذا الرقم إلى 20 مليار دولار في 2020.
الزيف لا يفيد من جديد، والاعتراض على العلمانية الفرنسية الجافة له أدواته التي برعت فيها الإمارات العربية المتحدة من خلال «مجلس حكماء المسلمين»، والذي أمر بتشكيل لجنة خبراء قانونية دولية لرفع دعوى قضائية على صحيفة «تشارلي ابيدو» والقائمين عليها.
شتان الفارق بين موقف دولة الإمارات الداعية للتسامح والتصالح حول العالم، وصاحبة وثيقة «الأخوة الإنسانية»، التي تسعى في طريق إحقاق الحقوق بالعدالة والقانون، ومن غير أن توجه اتهامات عشوائية مطلقة لعموم الفرنسيين، وبين الأردوغانيين الجدد، ومن لف لفهم المهتمين بالتلاعب المفضوح، في عالم أضحى ذكياً بما لا يدع مجالا لحديث الإفك أن يسود.