لا يوجد أي بلد في العالم يستطيع ادّعاء أنه غير معنيٍّ بالانتخابات الرئاسية الأميركية، خصوصاً هذه المرّة، وفي منعطف تاريخي كوني يتمثل بسنة «كورونية» ستنعكس حتماً على سنوات طويلة آتية. وقبل أسبوع من يوم الاقتراع لم يعد المهمّ مَن يفوز فحسب، بل أن تكون النتيجة واضحة باعتراف الطرفين المتنافسين. إذ أن احتمالات الغموض قد لا تؤدّي فقط للاحتكام إلى القضاء لحل الإشكال، كما في عام 2000، بين جورج بوش الابن وآل غور، وإنما إلى فوضى يخشاها كثيرون داخل أميركا وخارجها. فمَن يكرهون السياسات الأميركية يتمنّون دائماً أن يؤدّي أي تغيير إلى تعديلها أو تحسينها، لكن أي سيناريو فوضوي قد ينطوي على الأسوأ. فانشغال أميركا بنفسها، أو بما يشبه «حرباً أهلية»، كما تحذّر بعض التوقعات، لن يشيع سلماً دولياً، بل سيقود إلى فوضى عالمية.
هناك قلق شديد إزاء ضيق المنافسة واحتدامها، ورغم أن الانقسام التقليدي كان دائماً بين الحزبين الأكبرَين، «الجمهوري» و«الديمقراطي»، وتنضوي تحته انقسامات فرعية كثيرة لا تُلفت الخارج إلا في ما يتعلّق بالعلاقة بين البيض والسود، فإن الفوز المفاجئ لدونالد ترامب عام 2016 سلّط الأضواء على التفاوتات الاجتماعية ودور الاستقطابات الدينية، فضلاً عن التوتّرات العنصرية، ومعها بروز الميليشيات المتطرّفة كما لو أنها اكتسبت مشروعية مستجدةً، علماً بأن وجود ميليشيات في حدّ ذاته ليس مخالفاً للقانون، أما تطرّفها فكان دائماً موضع رصد ومكافحة أمنيين. في الآونة الأخيرة كُشِف مخطط لخطف حاكمة ولاية ميشيغان، فيما شهد بعض نواحي ويسكونسن مواجهات عنيفة متواصلة، كما سجّل ظهور ميليشيات مسلّحة في أكثر مكان ومناسبة وبُثّت أشرطة لأعضاء فيها يتدرّبون على إطلاق النار. بل قالت تسريبات إن البنتاغون يخطّط لحملة كبيرة ضد الميليشيات.
لا شك أن الدولة تبقى الأقوى في أميركا، كذلك الدستور والقوانين والمؤسسات، لكن مكامن قوّة أخرى تولّدت من وسائل التواصل ومن حدّة الاستقطابات التي وضعت «القيم الأميركية» على المحك. فهناك من جهة الإشاعات والتلفيقات ونظريات المؤامرة والمحتوى الأكثر شعبوية.. تشحذ حدّة النقاش والتفاعل وتنزل بمستواهما إلى ما دون السياسة، وتوتّر الوئام الاجتماعي. وهناك في المقابل اختيار الرئيس ترامب تموضعاً سياسياً غير مألوف وخطاباً «تويترياً» بادي الانحياز والتحدّي، خصوصاً عندما تكون هناك احتقانات في الشارع، كما فعل عندما حمل الإنجيل ولوّح بالقوة العسكرية ضد المحتجّين على العنصرية.
ومع وباء «كوفيد-19» وتبعاته الصحّية والاقتصادية القاسية، وجائحة التغيّر المناخي واحتراق الغابات، وصعود متزايد للعداء والاضطراب العنصري.. تجرى الانتخابات في إحدى أسوأ الحقب أميركياً وعالمياً، بل في أجواء تنذر بخطر كامن، مما أدّى إلى احتدام الجدل حول ظاهرة لم يتخيّلها أحد من قبل؛ إذ لا يمضي يوم من دون الحديث عن تدخّلات خارجية، روسية وصينية، وحتى عن رسائل تهديد «إيرانية» إلى ناخبي ترامب المفترضين! يصعب لأي تدخّل أن يغيّر نتيجة التصويت، لكن أي نتيجة غير محسومة تفتح الأبواب على المجهول. نادرةٌ هي المنازلات المشابهة في أميركا، بين اليمين واليسار، بين المحافظين والليبراليين، بين «كيو أي نون» و«انتيفا»، بين سودٍ يتطلّعون إلى إنصافٍ عبر صناديق الاقتراع، وبيض يريدون إبقاء أميركا في أيديهم.

*كاتب ومحلل سياسي -لندن