كانت لي مع طلبتي في الجامعة حوارات عن علاقة الثقافة بالمجال السياسي العام، خاصة أن عدم التدقيق العلمي عند بعض الكتاب يجعل من هؤلاء الطلبة عرضةً لمسارات فكرية خاطئة، تجعلهم بدورهم «سلبيين» ولا ينظرون بطريقة علمية ودقيقة وهادفة. فكل ما يتعلق بالإنسان العربي والعقل العربي هو في نظرهم رديف للتراجع السياسي والحضاري والفكري والحداثي.. لذلك أصبحت هذه النظرة بمثابة المتغير المستقل في ‬تفسير ‬المجال ‬السياسي العربي ‬العام.
ونجد في المكتبات الغربية والعربية - على السواء- تمادياً في الاستهانة بالعقل والذات الحضارية العربية، وعندما توصف الذهنيات والمسالك، فإنها تُنعت بالسلطوية والبطركية والإرث الجامد الذي يصعب تغييره! 
ومن ذلك نجد «إيلي قدوري» يقول إنه «ليس هناك في التراث السياسي الإسلامي شيء مما يجعل أفكاراً منظمة، كالحكم الدستوري والتمثيلي، أليفة أو قابلة للفهم». كما روّج «روفائيل بطي» لفكرة العقل العربي كمرادف ‬للجمود ‬الفكري. ‬وجاء ‬«فؤاد ‬إسحاق ‬الخوري» ‬بكتابه «‬الذهنية ‬العربية: ‬العنف ‬سيد ‬الأحكام»، ‬ليرى ‬في ‬التقاليد ‬وبنية ‬النفوذ ‬الشبيهة «‬بحبات ‬العنقود» ‬مسالك ‬تطمس ‬على ‬قلوب ‬وعقول ‬المرؤوسين ‬والمحكومين، ‬فيصعب ‬بذلك ‬إنشاء «‬سوق ‬سياسي» ‬مستقل ‬يتنافس ‬أطرافه ‬فيما ‬بينهم، ‬ومن ثم استحالة ‬اللعبة ‬الديمقراطية ‬الصحيحة. ‬كما نجد ‬عالماً ‬أنثروبولوجيا ‬آخر ‬هو ‬هشام ‬شرابي، ‬يأتي ‬بنظرية ‬«الأبوية» ‬المستحدثة ‬المخالفة ‬لقواعد ‬الحداثة، ‬والوجه الآخر ‬للسلطوية ‬السياسية، كما يعتقد! ‬ونفس ‬الشيء ‬يمكن ‬قوله ‬عن ‬المفكر ‬المغربي ‬عبد ‬الله ‬حمودي ‬في ‬نظريته ‬حول ‬«الشيخ ‬والمريد».
والأدهى من ذلك هو أن بعض المختصين في العلوم السياسية، مثل جيل كيبيل وأوليفيي روا.. ساروا بطريقة ذكية على مناهجهم بإسقاط نتائجهم كمسلمات يبدأون بها تحليلاتهم لتفسير الظواهر السياسية في العالم العربي، وهي أيضاً في نظرهم لصيقة بالداء السلطوي المتوارث وبالبنية الثقافية المتقادمة. 
ونجد كتاباً معاصرين يحاولون شرح ما يجري اليوم في ليبيا وسوريا ولبنان.. بناءً على العوامل سالفة الذكر، دون فهم مكونات المجال السياسي العام. والحقيقة أنه في هذه البلدان تتداخل عوامل متعددة، منها عمليات التجييش الطائفي، وإشعال وقود التشرذم، ورفض الآخر.. لكن لأي هدف؟ إن كل ذلك يحدث لأهداف سياسية، ولتحقيق الزعامات السياسية، ولإنفاذ أجندات داخلية وخارجية. بمعنى أن العامل السياسي الذي كان سلفاً هو المسؤول عن غياب نسائم الانفتاح السياسي في بعض البلدان، هو المسؤول اليوم أيضاً عن الانفلاتات الأمنية والتطاحنات بين إخوة الأمس.. أي ظاهرة التمزقات المتتالية التي تجد فيها بعض الدول الإقليمية منفَذاً لتحقيق مصالحها. وقد سبق وأن شرحت هنا هذه الفكرة، في معرض تناولي موضوع الحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في لبنان، وأكدت أن مريدي الطوائف كثُرٌ في البلد، للأسف الشديد، وهم يقوضون كل محاولة لبناء وعي سياسي جديد بالمجال السياسي. ووجدت أن من بين الأسباب الحقيقية لما يقع فيه لبنان اليوم، غياب الحكامة وغياب الواقعية في التسيير، وغياب الأطر المؤهلة أو تواجدها في أماكن بعيدة كل البعد عن المناصب التي يجب أن تشغلها، وكثرة المحسوبية والرشوة، وتوجيه الاستثمارات في اتجاهات خاطئة تأتي على الميزانيات السنوية، دون أن يستفيد منها المواطن اللبناني. 
مَن يتصفح كتب العلوم السياسية، سيجد فيها الوصفات الناجعة لبناء الدولة الحديثة ولتشييد الأنظمة القائمة على جدران من الثقة بين النخب السياسية في الحكم والمجتمع المدني، وسيجد أن كل المنغصات الطائفية والنرجسية القومية يمكنها أن تنصهر في إطار الدولة الموحدة، حيث يتقاسم فيها كل المواطنين نفس الحقوق ونفس الواجبات، سيجد فيها الجميع أن مفهوم الملكية الجماعية (الديمقراطية) للسلطة هو ما يمكن أن يجمع أكثر من أربعين طائفة مختلفة في دولة واحدة وبساكنة تتعدى المليار نسمة، كما هو شأن الهند. 
ترك ميكيافيلي في أوراق مخطوطاته أن «هناك مرتبتين للقوة: قوة تتغذى من ضعف الشعب وأخرى تتغذى من قوته»، فلا بديل عن مفهوم السياسة كشأن عام، ومفهوم السلطة كملكية جماعية، وقوة الدولة والسلطة يجب أن تتغذى من المفهوم الحقيقي للسياسة ومن قوة التعايش المشترك الذي يجمع ولا يفرق، يوحد ولا يمزق.