من بيته الجديد في برلين، يتذكر خليل شرف مدينة درعا التي مزقتها الحرب في سوريا التي فر منها في 2015: سقوط القنابل، معارك الشوارع، والاعتقالات العشوائية للجيران. 
ذات يوم جاءت الشرطة تبحث عنه، وكان محامياً يعبّر عن آرائه بصراحة، وزجت به في السجن، حيث قضى شهراً في زنزانة مكتظة بالسجناء مثله تحت الأرض يشاهد الناس حوله يختنقون حتى الموت كل يوم من شدة الازدحام. 
ويقول شرف: «كل إنسان لديه قدمان، لكن لم يكن هناك مكان يكفي حتى لذلك»، مضيفاً: «كنا نحمل الأطفال على أكتافنا حتى يستطيعوا التنفس». لكنه كان واحداً من الأشخاص المحظوظين. ذلك أنه في نهاية المطاف نجح في بلوغ ألمانيا، واليوم، وبعد خمس سنوات على فتح المستشارة أنجيلا ميركل أبواب بلدها في وجه سيل من اللاجئين مثله، بدأ شرف حياةً جديدةً في هذا البلد. فقد مُنح اللجوء السياسي، وتعلم اللغة الألمانية، ووجد وظيفة يقوم فيها بمساعدة لاجئين آخرين على الاندماج، وأعاد لمّ شمل أسرته بعد أن التحقت به زوجته وأطفاله. 
ورغم أنه عاش ظروفاً صعبة جداً تخللتها محاولات فاشلة، فإن قصته، والكثير من القصص مثلها، تُبرِز نمطاً للنجاح في إدماج أكثر من مليون لاجئ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية الألمانية. ويقول في هذا الصدد: «إن أطفالي يتعلمون في المدرسة الآن. إنهم يتحدثون اللغة الألمانية، ولديهم الكثير من الأصدقاء»، مضيفاً: «كما أنه لديّ أصدقاء ألمان. وأنا وزملائي في العمل كالأسرة الواحدة». 
والأكيد أن حزباً سياسياً من اليمين المتطرف فاز بمقاعد في البرلمان، جزئياً بفضل الركوب على ردة فعل شعبية محتجة على أكبر تدفق للاجئين تعرفه ألمانيا منذ الحرب العالمية الثانية. وعلاوة على ذلك، فإن وباء «كورونا» تحدى اللاجئين تحديداً في الوقت الذي أخذوا يقفون فيه على أرجلهم. 
غير أنه بعد مرور خمس سنوات على ذلك، وجد نحو نصف الوافدين الجدد العمل بهدوء بينما تساعد جيوش من المتطوعين الألمان الباقين بخصوص كل شيء، من دروس اللغة إلى إيجاد الوظائف والسكن. 
ويقول أولف رين، الخبير الاقتصادي بـ«معهد اقتصاديات العمل آي زي إيه»، وهو منظمة بحثية خاصة في بون: «مقارنة مع استقبال ألمانيا للمهاجرين من البلقان في التسعينيات، يُعد هذا الاندماج أنجح وأطول وأكثر استدامة». 
ومن جانبه، يقول ديتر فيلسينغر، عالم الاجتماع بجامعة سارلاند للعلوم التطبيقية: «لدينا مجتمع منقسم على نفسه، لكن المجموعة التي ترحّب باللاجئين تشكل الأغلبية»، مضيفاً: «لقد رأينا ارتفاعاً غير مسبوق في العمل التطوعي والتزاماً كبيراً جداً من الجاليات ومن الأفراد الألمان»، في إشارة ضمنية إلى «ثقافة الترحيب» التي باتت جزءاً من قاموس ألمانيا. 
آلاف المتطوعين الألمان صعدوا إلى الواجهة عبر ألمانيا، مكيّفين خدماتهم لتلبية الاحتياجات الصعبة للوافدين الجدد. ونتيجة لذلك، لم يعد اللاجئون الذين وصلوا في 2015، وتمكنوا من الحصول على وضع دائم في ألمانيا، يعيشون في الصالات الرياضية ويكافحون من أجل الاعتياد على البيئة الجديدة، فهم اليوم يواجهون احتياجات المستوى التالي.
كما أن جيش المتطوعين نفسه تحوّل من «كثير من السيدات الرائعات الكبيرات في السن اللاتي كن يوزعن الملابس وغيرها في البداية، إلى كثير من الأشخاص الأصغر سناً الذين لديهم أفكارهم الخاصة بهم. وجلهم أشخاص يهتمون بالسياسة»، كما يقول غونتر شولتز، من جمعية «تحالف الترحيب باللاجئين». 
وفضلاً عن ذلك، فإن الحكومة الألمانية أيضاً تعلّمت من تجربة البلقان أن الدعم المؤسسي لتعلم اللغة مهم جداً. وهكذا، باتت برامج اللجوء اليوم تموّل أو تدعم 600 ساعة من دروس اللغة الألمانية ودورة لتعليم القانون والمجتمع والثقافة الألمانية مدتها 60 ساعة. 
ويتذكر «شرف» معركته من أجل الوقوف على رجليه في تلك السنوات الأولى في برلين فيقول: «لم أكن أتحدث أي شيء، فبدأت أتدرب على اللغة الألمانية مستعيناً بـ(يوتيوب) والتحدث مع الناس في الشارع». 
المحامي السابق الذي كان يشعر بضغط كبير لإيجاد عمل، تحول إلى بناء ملاعب الأطفال كمتطوع. ويقول عن هذه التجربة ضاحكاً: «لقد كان هذا غريباً جداً لأنني لست عامل بناء»، مضيفاً: «لكني فهمت الأمر. لا يمكنني العودة إلى مهنة المحاماة من جديد، فقلت في نفسي: لا يهم، وأنشأت ملعب الأطفال هذا».
الآن لديه وظيفة يتقاضى عليها راتباً، حيث يساعد لاجئين مثله على صنع حيواتهم الجديدة في ألمانيا. زوجته وطفله الصغير -الذي كان في حاجة إلى التغلب على عادة الاختباء تحت الأسرّة بسبب صدمة نفسية نتيجة سماع القنابل- التحقا به في برلين. زوجته، التي كانت مدرسة للغة الإنجليزية في سوريا، تسعى إلى أن تصبح معلمة في ألمانيا. المتطوعون ساعدوهما على إيجاد شقة، وقد أنجب الزوجان طفلاً آخر. 
لقد أصبح المجتمع الألماني أكثر انفتاحاً بشكل ملحوظ منذ أن وصل إلى برلين، يقول شرف. ويضيف قائلاً: «في البداية، كانوا يعتقدون أننا جئنا فقط من أجل الجلوس والنوم وأخذ المال. لكن بعد ذلك، رأوا أننا مهندسون ومحامون وأطباء مثلهم ونريد أن نعمل. إنني أشتاق إلى سوريا كثيراً، لكني أشعر بأنني هنا في ألمانيا في وطني بنسبة 50 في المئة».

لينورا تشو

لينورا تشو - برلين
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»