تناولنا في الأسبوع الماضي مشروع محاربة «الانفصالية الإسلامية» في فرنسا، والذي قوبل بحساسية مفرطة من المتأسلمين، وكالعادة لكسب أكبر عدد من المخدوعين بالأيديولوجية الإخوانية، رغم أنه حق مشروع لفرنسا ولكل دول أوروبا والعالم لحماية أمنها القومي من الأيديولوجيات المتطرفة بغض عن النظر عن الانتماء الديني. فمثلاً القيادي الإخواني «يوسف ندا» كان الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش قد اتهمه في عام 2001 بتمويل الإرهاب، وبأنه صاحب بنك الإرهاب، وأمر مجلس الأمن بإدراج اسمه ضمن قائمة الإرهابيين، وتم بالفعل إلقاء القبض عليه حينها من قبل السلطات السويسرية، لكن المفاجأة التي شكّلت صدمة للأوروبيين هي كمية الوثائق التي كانت بحوزته والمترجمة إلى لغات أوروبية عدة، وكشفت عن مخططات إخوانية صادمة تسعى للتغلغل داخل أوروبا والسيطرة على كافة دولها، بمعنى أن هذا التنظيم لم يكتفِ بمد أذرعه الأخطبوطية في الدول العربية والإسلامية فقط.
وفي الآونة الأخيرة لاحظنا حالة التصادم والعداء العلني بين الدولتين الفرنسية والتركية، في ظاهرة غير مسبوقة على المستوى الدولي، تراشق فيها رئيسا البلدين بالشتائم المتبادلة! ولسنا هنا بصدد ذكر كافة الأسباب المتعلقة بالأمن القومي أو النفوذ الدولي أو المصالح الاقتصادية، نظراً لتشعب تلك الأسباب، ففي نظر فرنسا، يشكل «الإسلام السياسي» الذي تدعمه تركيا بجنون السبب الرئيسي للخلاف الحالي بين البلدين. وتناولنا في المقال الماضي تعرُّض فرنسا لأكبر عدد من العمليات الإرهابية على المستوى الأوروبي، وهذا ما يثير مخاوفها من سيطرة المشروع الإخواني التركي على ليبيا، ما سيؤدي إلى دعم الجماعات الإرهابية التي تشكّل خطراً على عموم أوروبا، وقد تتكرر تلك العمليات مجدداً. هذا بخلاف سلاح اللاجئين الذي تهدد تركيا بفتحه على أوروبا، علماً بأن معظم موجات اللاجئين من أفريقيا تأتي عبر البوابة الليبية.
ونلاحظ كذلك تحوّل السياسة التركية نحو الاهتمام بمنطقة البلقان، وذلك بالتزامن مع تولي «حزب العدالة والتنمية» السلطةَ في تركيا عام 2002، حيث لم تكن منطقة البلقان تحظى بأهمية في سياسة تركيا الخارجية قبلها. وتضم المنطقة في الوقت الراهن 10 دول هي: ألبانيا، وكوسوفو، والبوسنة والهرسك، وصربيا، وبلغاريا، وسلوفينيا، وكرواتيا، والجبل الأسود، ومقدونيا، ورومانيا، إضافة إلى أجزاء من اليونان وتركيا. وقد مزجت تركيا بين العديد من الأدوات تحقيقاً لأهدافها في هذا الشأن، عبر تطوير علاقاتها الاقتصادية مع دول المنطقة وضخ استثمارات خاصة، إضافة إلى الدور السياسي والدبلوماسي والتدخل التركي لحل ما تعانيه المنطقة من نزاعات وتقديم ورعاية مبادرات لحل تلك المشكلات. كما كان هناك تنسيق استخباراتي بين تركيا ودول البلقان، وخاصة في مواجهة أتباع حركة فتح الله غولن، مما يوضح حجم النفوذ التركي في المنطقة.
وإضافة لذلك، فقد لجأت تركيا إلى أدوات القوة الناعمة، تماماً مع ما تمارسه ضد الدول الأوروبية، من خلال التركيز على العديد من المؤسسات الثقافية والتعليمية والدينية والتنموية التي أخذ دورها في التوسع في تلك المنطقة لجذب العديد من فئات المجتمع، مع الاهتمام بمسلمي البلقان، لتبدأ أنقرة في توجيه المزيد من الاستثمارات نحو بناء المساجد الإخوانية، وإحياء التراث العثماني في تلك الدول.
وأخيراً.. فقد تنبهت أوروبا لمخاطر التدخل التركي في البلقان على هذا النحو، لتبدأ في التحرك نحو دول المنطقة، من خلال تقديم استراتيجيات لضم تلك الدول للاتحاد الأوروبي بهدف أساسي هو وقف التدخل التركي والروسي. لكن هل أوروبا قادرة على المواجهة في ظل الانقسام الداخلي الحالي بين دولها؟