الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

التّشكيل في ليبيا.. فرادة التّجارب والتباس التّاريخ

التّشكيل في ليبيا.. فرادة التّجارب والتباس التّاريخ
15 أكتوبر 2020 01:02

تتضمّن الحركة التّشكيليّة في ليبيا أسماء بارزة عرفت كيف تستدرج جغرافيّة بلادها إلى بساط القماشة، وكيف تمزج أضواء الصّحراء بظلال المدن السّاكنة في الأطراف والملتفّة بالواحات مثل غدامس، والكُفرة، وغيرهما..، وكيف تذيب الحروفيّة في أشكال محلّية، وكيف تلقّح عصاميّة بصريّة صادقة وعميقة، رغم بساطتها بتقنيات وأساليب أكاديميّة خبِرها بعض الرّوّاد في ستّينيات القرن الماضي وسبعينياته، ضمن بعثات علميّة إلى إيطاليا تخصيصاً وإلى بعض البلدان العربيّة. ومع ذلك يعتري تاريخ هذه الحركة التّشكيليّة قدْر من الالتباس. ذلك أنّ الهيمنة العثمانيّة على ليبيا حالت دون استقرار الشّخصيّة اللّيبيّة، باعتبار الاستقرار من شروط إمكان تطوير المنجز البصريّ تشكيلاً وعمارة؛ ثمّ عمّق الاستعمار الإيطاليّ هذه الوضعيّة الدّيمغرافيّة المتحرّكة تحرّك رمال الصّحراء. 

ترميم الذاكرة
ومن ثمّ كان على التّشكيليّين اللّيبيين أن يرمّموا ذاكرة المكان، حتّى يستنبتوا فيها إنشاءاتهم البصريّة. كان عليهم أن يبعثوا مراسمهم في مدنهم الأصليّة وقد بدأت تتطوّر معماريّاً واجتماعيّاً وتعليميّاً، وأن يتلمّسوا بالفرشاة والقلم الحبل السُّرّي الذي كادت تقطعه الهيمنة العثمانيّة وعمل على قطعه الاستعمار الإيطاليّ، الحبل الذي يشدّهم إلى ألوان بيئتهم وأضوائها وأشكالها؛ فكان توزّعهم في مدنهم (طرابلس، والزّاوية، وترهونة، وبنغازي، وغيرها..) عامل تنوّع وإثراء وكان، في الوقت نفسه، تعبيراً عن تباين كبير بين التّجارب التّشكيليّة، في مسعى إلى نحت شخصيّة بصريّة للفنون التّشكيليّة في ليبيا لا محالة؛ لكن الأسباب التّاريخيّة التي ألمحنا إليها حالت دون وجود مدرسة واضحة الرّؤية، كما كان الحال في الجوار القريب لليبيا: تونس ومصّر. 

التّجريب التّجريديّ
وقد يكون ذلك وراء سرعة بروز تجارب تشكيليّة ذات فرادة لافتة. وهي تجارب لا تتّسع هذه الورقة لذكرها أو حتّى لذكر الكثير منها. فنكتفي، ها هنا، بإطلالة قد تشي بالتّنوّع الذي يميّزها. والواقع أنّه عين التّنّوع الذي نلاحظه في أغلب البلدان التي لها باع في الفنون التّشكيليّة والتي عرفت ثقافة بصريّة قويّة؛ إلاّ أنّ الأمر في تلك البلدان خاضع لمنطق التّعاقب التّاريخيّ، أمّا في ليبيا فهو يجري ضمن سياق من التّزامن، حيث تتعايش النّزعة التّشخيصيّة مع التّيّار الانطباعي أو الوحشي، مع التّجريب التّجريديّ، مع المراس الحروفيّ.. فعندما كان محمّد البارودي يرسم، تشخيصيّاً، مشاهد من الحياة اليوميّة في ليبيا، مسجّلاً تفاصيلها، أو عندما كان يوسف أفطيس يغمّس فرشاته في ألوان النّخيل والماء، أمّا علي سعيد قانة، فيحاور مزهريّات فان غوغ، ولكن بألوان وأزهار محلّية. وكان سالم التّميمي يتلفّت تجريبيّاً إلى جنس آخر، الرّسم التّجريديّ، متّبعاً تقنية تحوّل الأبيض من قيمة إلى لون وهي تحاصِر بأشكال هندسيّة يغلب عليها المثلّث، في تصادٍ، ليبيّ هذه المرّة مع الرّسّام السّويسري بول كليْ. وكان أحمد أبو ذراعة في تجريب من نوع آخر: يحوّل الحروفيّة إلى امتداد لأشكال ومساحات زرقاء، أو هو يدمجها فيها ضمن تسويغ تشكيليّ تجديديّ لواحد من أهمّ الأصول الحضاريّة التي تشترك فيها ليبيا مع غيرها من البلاد العربيّة. ولكن في الوقت نفسه كان إسكندر السّوكني يستثمر الخامات التّقليديّة (النّسيج) لينسج الحروف ويسكنها في خيوط السّجّاد في ألوان تليّـن من سطوع الضّوء في المكان، فإذا بهذه الألوان كأنّها ظلال لوحدها. وكان محمود الحاسي أو فوزي الصّويعي يستثمران مفردات الأثاث، التي تزيّن أشباهها جدران بيوت غدامس، في حِرَفيّة جماليّة تحوّل الخزائن الصّغيرة والصّناديق إلى تحف فنّية خالصة..

الجماليّة الدّالة
والواقع أنّ ثمّة حساسيّة تشكيليّة مخصوصة في المشهد البصريّ اللّيبيّ تقتضي انتباها مخصوصاً؛ ونعني بذلك الحساسيّة الأنثويّة التي تتميّز بضرب من الجماليّة الدّالة دونما إسراف، على نحو ما نصادف ذلك لدى نجلاء الفيتوري، ضمن حرصها على تدبّر الشّخصيّة اللّيبيّة بمِلْوَن يغرف من ألوان البيت اللّيبيّ وأزياء سكّانه. وربّما تجلّت هذه الحساسيّة الجماليّة الدّنيا في أعمال الحروفيّة الشّابّة منيرة الحاج وهي تعيد تشكيل الحرف الأمازيغيّ الثّاوي في الذاكرة السّحيقة لبعض المدن والواحات اللّيبيّة؛ فتجترح انحناءاته واستداراته وتعرّجاته بيضاءَ في ليل القماشة.

قبل النّهضة التّشكيليّة في ليبيا كانت الألوان تحت وطأة الهيمنة العثمانيّة والاستعمار الإيطالي مُعمية أو تكاد، تحول بين اللّيبيّ وكنوز الظّلال والأضواء التي ينشرها إيقاع التّنوّع الإثني والثّقافي في الصّحراء الموصولة بالبحر. ولكن منذ عقود أربعة أو خمسة أصبح بإمكان اللّيبيين أن يروا إلى مِلْون بلادهم تُغمّس فيه فرشاة من هنا وفرشاة من هناك في حركة تشكيليّة متنوّعة، رغم التباس راهنها اجتماعيّاً وسياسيّاً.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©