عادة ما تخفي الحروب والصراعات خلف ستارتها تنافساً على الموارد والثروات وخطوط إمداداتها، إذ لا يخرج الصراع الدائر حالياً بين أذربيجان وجارتها أرمينيا حول إقليم «ناغورني كاراباخ» عن هذا النطاق، تلك المنطقة التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي قبل أن ينهار قبل ثلاثين عاماً، لتتنازع الدولتان السيطرة عليها لأسباب قومية واستراتيجية واقتصادية في آن واحد.
منطقة «ناغورني كاراباخ» نفسها لا تتمتع بثروات طبيعية ذات أهمية كبيرة، إلا أن أهميتها تكمن في موقعها الاستراتيجي، كنقطة التقاء محتملة لإمدادات النفط والغاز من آسيا الوسطى الغنية بالثروات الهايدركربونية، كما سنرى لاحقاً، وإمكانية بناء خطوط إمداد لتصدير هذه الموارد الطبيعية إلى الأسواق الأوروبية.
تتمتع ثلاث من دول القوقاز، وهي تركمانستان وأذربيجان وكازاخستان بثروات هائلة من النفط والغاز، حيث تحتل تركمانستان المرتبة الرابعة في العالم من حيث احتياطيات الغاز الطبيعي بحجم 17.5 تريليون متر مكعب، في حين تمتلك أذربيجان وكازاخستان بالإضافة إلى الغاز احتياطيات كبيرة من النفط.
المشكلة الرئيسية لهذه الدول الثلاث أنها دول مغلقة، أي أنها لا تملك منافذ بحرية مفتوحة وتحيط بها أراض الدول الأخرى من الجهات الأربع، وذلك إذا استثنينا بحر قزوين، والذي يعتبر بدوره بحيرة مغلقة، مما يخلق مشكلة لوجستية معقدة تعرقل كثيراً عمليات التصدير، والتي تحيط بها المخاطر والابتزازات وخطورة التوقف في أي وقت ولأي سبب.
في الوقت الحاضر هناك خطان، أحدهما لنقل النفط والآخر لنقل الغاز، حيث اضطرت أذربيجان إلى بنائهما بعيداً عن ناغورني كاراباخ وأرمينيا، إذ يمران شمالاً بمسافة مضاعفة إلى جورجيا ومنها إلى تركيا، التي تعتبر أحد المستهلكين الرئيسيين للنفط والغاز الأذربيجانيْين.
المشكلة تكمن أولاً في أن طاقة هذين الخطين محدودة، في حين يتنامى الطلب على النفط والغاز ليس في تركيا وحدها، وإنما في أوروبا أيضاً، وثانياً، فإن تركمانستان الغنية جداً بالغاز تقف عاجزة عن استغلال هذه الثروة الهائلة، والتي هي في حاجة ماسة إليها بسبب وضعها الجغرافي المحاصر، حيث تتوفر لها ثلاثة خيارات للتصدير للأسواق الخارجية، أولها من خلال أفغانستان وباكستان ومن ثم نقلها بالناقلات من الموانيء الباكستانية، إلا أن الأوضاع غير المستقرة في أفغانستان تحول دون ذلك، الخيار الآخر هو عن طريق إيران ومن ثم إلى موانئها على بحر العرب، إلا أنه لا يمكن الوثوق في نظام الملالي في طهران، والذي يمكن أن يستغل ذلك لتحقيق أغراض أيديولوجية وطائفية.
يبقى الطريق الثالث، وهو الأكثر ضمانة، وهو بناء خطوط تحت بحر قزوين باتجاه أذربيجان ومن ثم إما شمالاً باتجاه جورجيا ومنها إلى أوروبا، وهذا التوجه سيكون مكلفاً جداً، وإما جنوباً باتجاه ناغورني كاراباخ باتجاه «الكريدور» الأرمني الذي يفصل أذربيجان عن تركيا، والذي يمكن التعامل معه بعد ذلك لاستفادة أرمينيا اقتصادياً، وهو طريق إمدادات مختصر ومجدٍ اقتصادياً لكافة الأطراف المشاركة فيه، كما أنه سيمد الأسواق العالمية بكميات كبيرة من الغاز التركمانستاني.
هنا بالذات يكمن جوهر الصراع الدائر حالياً بين أرمينيا وأذربيجان، فمن يسيطر على هذه المنطقة، بإمكانه التحكم في إمدادات النفط والغاز الكبيرة القادمة من ثلاث دول منتجة في منطقة القوقاز، والتي ربما تضم دولاً أخرى في المستقبل.
وبالتالي، فان الحرب الدائرة حالياً لا تخص باكو ويريفان وحدهما، وإنما هناك أطراف إقليمية وعالمية تشتم من بعيد رائحة النفط والغاز، وتريد أن تكون لها كلمة في تحديد مستقبل نقلهما، لتحقيق أمنها في مجال الطاقة والتحكم في الإمدادات للدول الأخرى، مما يعني أن العالم يقف أمام حرب حاسمة ستجذب مع مرور الوقت المزيد من اللاعبين، وهو ما سيؤدي إلى تعقيدات جديدة وكوارث وتدمير قبل أن تستقر الأمور، إما لصالح الطرف الأقوى، أو من خلال التوصل لتفاهمات مشتركة، ربما تكون متاحة في حالة هدوء الأوضاع.
*مستشار وخبير اقتصادي.