اضطرت تركيا للتراجع في شرق المتوسط، حيث اللعب على حافة المواجهة العسكرية لا يفيد، كما في شمال سوريا، أو حتى في شمال العراق. فجأةً، هدأ أردوغان وأصبح مستعداً للتفاوض بجدّية مع اليونان، لتصحيح العلاقة مع مصر، بل اتصل بنظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، منهياً مسلسل تحدّيات غير مسبوقة. أما الأسباب، فيمكن إجمالها بأن المغامرة الواسعة التي أخذت أردوغان إلى ليبيا، بغية توسيع المجال البحري التركي أو ما يسمّيه «الوطن الأزرق»، وأوحت له بإمكان الهيمنة على المتوسط، ما لبثت أن توقّفت أولاً عند خط سرت -الجفرة، وثانياً عند الحدود التي رسمها حلف الأطلسي للتصعيد. كما تبين أن «التفويض» الأميركي لأنقرة في ليبيا لم يكن مفتوحاً، وأن التنسيق مع واشنطن في سوريا لا يمكن أن يشمل شرق المتوسط. لذلك انتفت المكاسب من أي توتير.
الأفضل، إذن، الاستدارة إلى التهدئة وتفعيل الديبلوماسية، علّهما يأتيان بمعطيات أو فرص جديدة. في العادة يمكن لبراغماتية، كهذه، أن تفيد، لكنها في حال أردوغان جاءت متأخرة، وبعدما تحقّق من خسائره. ففي ليبيا لن يكون الحل «تركياً» كما اعتقد، ليس فقط لأن البلبلة سادت حلفاءه، لاسيما «الإخوان» منهم، بل لأن تأثير القوى الدولية والإقليمية الأخرى لا يترك لتركيا سوى دور محدّد وغير مضمون. وعلى عكس صيغة «الشراكة» بدت ممكنة بين تركيا وروسيا في سوريا، لكنها ظلّت مؤقتة، فإن استنساخها في ليبيا لا يبدو متاحاً، حتى لو أشاع الطرفان أن وقف إطلاق النار نتيجة اتفاقهما. إذ تبقى الكلمة العليا للولايات المتحدة التي ترسم الخطوط الحمر وتتولّى توزيع الأدوار.
أما في شرق المتوسّط، فاستشعرت أنقرة فجأة أنها مسبوقة، رغم أنها كانت تراقب عن كثب كل التحركات المتعلّقة بترسيم الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة بين دول المتوسّط. وعندما أُعلن تأسيس «منتدى شرق المتوسّط للغاز» مطلع 2019، كانت مصر والأردن والسلطة الفلسطينية واليونان وقبرص وإسرائيل وإيطاليا، قد حققت تقدّماً مهماً في عمليات التنقيب وتقدّماً أهم، تمثّل باتفاقات على الترسيم (باستثناء إسرائيل والفلسطينيين)، ما سمح لهذه الدول قبل أيام بتحويل «المنتدى» إلى «منظمة». تعتبر تركيا أنه جرى إقصاؤها، وكان يفترض إشراكها بحكم تبعية قبرص التركية لها (غير معترف بها دولياً)، وبالتالي حاولت أنقرة الالتفاف عبر ليبيا، ثم عبر تحريك ملف الجزر المتنازع عليها في بحر إيجة، تارةً بتنشيط أعمال المسح الزلزالي، وطوراً بالمناورات، وأخيراً بتطوير التقارب مع طهران من قبيل لفت نظر واشنطن، لكن الأخيرة ضاعفت علنية دعمها لقبرص، ثم لليونان.
وسعى الإعلام التركي إلى تصوير التوافق على استئناف المحادثات الاستكشافية بين أنقرة وأثينا كأنه اختراق حقّقه أردوغان في الأزمة، لكن أخطاءه جعلته يتلقف المخرج الذي طرحته ألمانيا و«الناتو». فهذه المحادثات بالغة التعقيد حول جزر بحر إيجة افتتحت في 2002 مع وصول حزب أردوغان إلى السلطة، ولم تحقّق نتائج حتى توقّفها في 2016، بالتزامن مع التحولات المتشدّدة في السياسات الأردوغانية. لذلك فإن إنجاحها رهن انضباطيته وإقلاعه عن نمط «البلطجة». استطراداً، لكي ينجح أي تصحيح للعلاقات مع مصر، لا بدّ أن يضع أردوغان حداً لتواطؤه مع جماعة «الإخوان»، فهل يفعل؟