حب المعرفة غريزة إنسانية ارتبط بها جذرياً. منذ تلفت فرأى ما حوله، وأدرك بحدس خفي ما يختزنه من خاصية فريدة لا تملكها الكائنات الأخرى بتعدد أشكالها وأجناسها. منذ انحنى ليلتقط غصناً يابساً للدفاع عن حياته. منذ أدرك أن عليه أن يذهب للبحث عن طعامه. منذ رأى السحر الغامض لجوهر النار. منذ ذلك وإلى الفناء، تظل غريزة المعرفة حمضاً خفياً في دماغه يدفعه ليرتقي سلم التطور. وأصبحت الرغبة في المعرفة لديه طبعاً يتخذ قوة الغريزة، تماماً كما غريزة الجوع والتناسل والبقاء. وهذه الغريزة غاية بذاتها، وغاية من أجل التبدل والتغيير. غريزة المعرفة تتخذ سلوك البحث الدؤوب بالقراءة والتجريب والابتكار، للإحاطة بما يحيط داخل الذات وخارجها. بالماضي والحاضر والغد. إنها بحث في الوجود والكون. في المرئي واللامرئي. وما هو أبعد من قدرات الحواس، في الظاهر والباطن. 
لذا فليس من طبع الإنسان بسبب هذه الغريزة أن يقنع ويرضى ويستكين ويخضع ويتضعضع. ليس ذلك من خصائصه الفسيولوجية، ولا من خصائصه البيولوجية، ولا من خصائصه القيمية. ففي كيان هذا الكائن النوعي تسري كيمياء النهوض والإبداع والابتكار. وليس الخنوع والسكون والرضى والجهل من طبع الإنسان فطرياً وإدراكاً. أي إنسان رضيعاً كان أم بالغاً. في صقيع متجمدٍ، أم في صقع ملتهب. في أردأ الظروف، أو في أفضلها. 
إذا كانت الرغبة في المعرفة ترتقي إلى قوة الغريزة عند الإنسان، فإن كل ما يضعف هذه الغريزة هو اكتساب محض، لا يتمُّ إلا بالترويض والقسر. وإذا كان ترويض الغرائز الفطرية الأخرى فيه اكتساب للصفة الإنسانية، فإن ترويض رغبة المعرفة شرٌ مطلقٌ لا صلاح فيه. إنها شوق عارمٌ شامل يذهب إلى كل شيء. حتى أنه في قوّتهِ واحتدامهِ يصير أكبر من قدرات الفرد وإمْكانيات المحيط. فمن لا يعرف أمراً راهناً يطلق لخيالهِ تصورات المعرفة حولهُ. ومن يعرف أمراً في الحاضر يبحث عن معرفتهِ في الماضي. كما يبحث عن معرفتهِ في المستقبل. إننا عندما نعرف قليلاً عن أمرٍ ما، نتوق للتوغل عميقاً لمعرفة المزيد عنهُ. فيا لعظمة هذا الغريزة وشراهتهِا. إنها لا تهدأ ولا تستكين، كما لو أنها جوهر الوجود الإنساني وقوّتهِ الرافعة. إنها ما يميز الكائن الإنساني عن كائنات الطبيعة ليس لأنه كائن اجتماعي، فكل الكائنات، حتى النباتات اجتماعية. وليس لأنه ناطقٌ، فكل كائنات الطبيعة تصدر إشارات صوتيّة. وما الكلام عند الإنسان سوى إشارات صوتية، حوّلها إلى شيفراتٍ اصطلاحية من خلال هذه الطفرة الجينية التي غرست فيه غريزة المعرفة!