عدد كبير من البيانات التي توضح التغيرات السريعة في اقتصادات الدول، تصدرُ يومياً من مختلف المؤسسات الدولية والإقليمية، بعضها إيجابي والآخر سلبي. وأحياناً تُأخذ التحليلات المرافقة لإصدار هذه البيانات بعين الاعتبار التغيرات الهيكلية، وأحياناً تتجاهلها بهدف الإثارة والتشويق!
مؤخراً صدر عن البنك الدولي للإنشاء والتعمير إحصائيات جديدة حول أكبر عشرة اقتصاديات في العالم، والتي تستحوذ على 67% من إجمالي الاقتصاد العالمي، تاركة 33% لبقية دول العالم، أي أكثر من 190 دولة، حيث يلاحظ الصعود السريع لاقتصادات بعض المستعمرات السابقة، كالهند وتفوقها على مستعمريها السابقين، كبريطانيا، كما يلاحظ الصعود الصاروخي للاقتصاد الصيني، وتفوقه على اليابان مناكفه التاريخي، والذي احتل لعقود طويلة أراض شاسعة من الصين.
السؤال المهم والذي بحاجة لإجابة موضوعية يكمن في أنه: هل تعكس هذه البيانات الكمية، حقيقة التقدم الاقتصادي ومستويات المعيشة للسكان، وهي مسائل نوعية في غاية الأهمية وتأتي على رأس أولويات السياسات الاقتصادية، بمعنى علاقة هذه البيانات الكمية بنوعية وجودة حياة السكان ومستوياتهم المعيشية، أي العلاقة بين الكم والنوع.
ولنأتي ببعض الأمثلة لشرح هذه العلاقة بشيء من التفصيل، فالاقتصاد الصيني يقترب بسرعة من مستوى الاقتصاد الأميركي من ناحية الكم، ففي مقابل 21.4 تريليون دولار حجم الاقتصاد الأميركي، فقد بلغ حجم الاقتصاد الصيني 14.3 تريليون وفق البنك الدولي، إلا أنه من الناحية النوعية، فإن ذلك لا يعني الكثير، إذ من أجل الوصول إلى مستويات متقاربة من الناحية النوعية، فإنه يفترض أن يصل حجم الاقتصاد الصيني إلى 100 تريليون دولار، وذلك بسبب الفارق الشاسع بين عدد السكان في البلدين، كما أنه من أجل وصول الصين إلى مستوى الاقتصاد الياباني من الناحية النوعية يفترض أن يصل حجم اقتصادها إلى 65 تريليون دولار، إذ أن الصين في كلا الحالتين بحاجة لعقود طويلة للوصل إلى هذه المستويات النوعية من النمو ومستويات المعيشة.
وفي مثال آخر تساوى الاقتصادان البريطاني والهندي عند 2.8 تريليون دولار لكل منهما، إلا أن هناك فرقاً شاسعاً بين مستويات اقتصاديّ البلدين والمستويات المعيشية للمواطنين فيهما، إذ أنه من أجل أن يصل الاقتصاد الهندي من الناحية النوعية لمستوى الاقتصاد البريطاني، فإن حجمه لا بد وأن يتضاعف 20 مرة ليصل إلى 60 تريليون دولار، وهو أمر غير قابل للحدوث في المستقبل المنظور.
وإذا أضيف إلى ذلك الفجوة التقنية والعلمية بين اقتصادات هذه الدول، أي المتطورة والناشئة، فإن الفارق من الناحية النوعية سيكون أكثر اتساعاً، مما يعني أن الفجوة بينهما ستبقى لعقود عديدة قبل أن تتقلص بفضل التقدم السريع الذي تحققه الدول الناشئة، إذ أنه حتى لو تجاوز الاقتصاد الصيني مثيله الأميركي بحلول عام 2030 كما هو متوقع، فإن الفارق النوعي سيبقى كبيراً، كما أنه يتوقع أن يتجاوز الاقتصاد الهندي مثيله البريطاني في العامين القادمين، إلا أن ذلك لن يمحي الفارق الشاسع بينها من الناحية النوعية وجودة الحياة في كلا البلدين.
من هنا يجب عدم النظر إلى الأرقام الصماء بعيداً عن المقارنات بينها وبين المستويات النوعية ومستويات المعيشة، فالإثارة من خلال البيانات المجردة صناعة إعلامية بامتياز، مما يولد انطباعات خاطئة تقود إلى استنتاجات غير صحيحة، وهذه مسألة لا تعكس حقيقة الأوضاع والتغيرات الدولية الهيكلية وموازين القوى السائدة في العلاقات الدولية.
هذه المفارقات التنموية تنطبق على كافة اقتصادات العالم، بما فيها اقتصادات الدول النامية، بما فيها العربية، إذ نجد أن هناك فرقاً نوعياً كبيراً بين اقتصادات دول مجلس التعاون الخليجي وبين اقتصادات البلدان الإقليمية والعربية الأخرى، كالعراق وليبيا وإيران والجزائر، حيث تمنح أفضلية كبيرة للاقتصادات الخليجية من الناحيتين الكمية والنوعية، فحجم الاقتصادات الخليجية المنتمية إحداها لمجموعة العشرين في العالم وجودة الحياة ومستويات المعيشة تضعها في مقدمة دول منطقة الشرق الأوسط على كافة المستويات. 
*مستشار وخبير اقتصادي