الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بيوت ثرية بأحلام اليقظة

لوحة للفنانة مياسة السويدي
30 سبتمبر 2020 21:28

مياسة السويدي

تسكننا الكثير من الذكريات والمشاعر عن كل البيوت التي سكناها يوماً، فيها بدايات الأحلام ومساحات الفرح واكتشاف الذات، تلك البيوت التي نعود إليها في أحلامنا هي الموطن الحقيقي للذاكرة، فالكثير من ذكرياتنا محفوظة بفضل هذا البيت، فبيت الطفولة له ذكريات متأصلة في أعماق الروح، وهو عالم الإنسان الأول، تلك البيوت الثرية بأحلام اليقظة التي لا تمنح نفسها بسهولة للوصف، فهو مكان قد عاش فيه بشر ليس بموضوعية فقط، بل بكل ما في الخيال من تحيز، وقد نستطيع أن نحكي كل شيء عن الحاضر، ولكن ماذا عن الماضي؟
 تبقى تلك الذكريات نسيجاً قوياً في الوجدان، رغم غيابها المحتمل في الواقع، وقد لا يكون بقاؤنا في المنازل أثناء فترة جائحة «كوفيد- 19» في الفترة الماضية اختيارنا الأول، لكنه لا يعتبر إكراهاً أو انعزالاً عن العالم، حيث إن البيت هو المأمن من أي خطر محتمل. والبيت كما يراه غاستون باشلار، في كتابه «جماليات المكان»، ركننا في العالم، إنه كما قيل مراراً، كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى. وتبعاً لباشلار، تكمن أهمية بيت الطفولة في قدرته على أن «يحمي أحلام اليقظة، ويتيح للإنسان أن يحلم بهدوء». 

بيت الطفولة
ومن هنا احتل البيت مكانة مهمة، حيث تتداخل ذكريات الطفولة مع الخيال، فتتماهى مع هذا المكان الذي يسكننا بدل أن نسكنه، هناك بدأنا اكتشاف ما حولنا لنكوّن مفاهيمنا الخاصة، ويؤكد عالم النفس الشهير فرويد، مؤسس نظرية التحليل النفسي، أن مكان الطفولة هو الإطار الطبيعي للقصص التي تظهر للمرء في أحلامه، مهما بلغ من العمر، حيث يؤكد على أهمية أول خمس سنوات في حياة الإنسان، التي اعتبرها الأساس في تكوين جوهر شخصية الفرد مهما تعددت تجاربه وخبراته في الحياة، حيث يعود السبب إلى أن العلاقة بالمكان تضع صيغة للخبرة في الدماغ البشري، وتكون الصيغة الأولى إذا توفرت لها عوامل الاستقرار والوعي وهي الأكثر رسوخاً، فمن الطبيعي أن يكون حنين الإنسان لموطنه الأول غالباً على أي موطن آخر، كما عبر الشاعر أبو تمام عن ذلك في بيت الشعر الشهير «كم منزل في الأرض يألفه الفتى.. وحنينه أبداً لأول منزل».

بيت الذكريات
ويشير باشلار في كتاب «جماليات المكان» إلى أننا حينما نسكن بيتاً جديداً تتوارد لنا ذكريات البيوت التي عشانا فيها سابقاً، حيث ننتقل لذكريات الطفولة، فالبيت الذي شهد ولادتنا محفور بشكل مادي في داخلنا، فنحن لن نتعثر بتلك الدرجة العالية بعض الشيء، وسوف ندفع الباب الذي يصدر صريراً بنفس الحركة في طفولتنا، وأننا نستطيع أن نجد طريقنا في الظلام في غرفة السطح البعيدة، وقد تفتح الخزانة فتجد أنها ما زالت تحتفظ بتلك الرائحة الفريدة، تحاول أن تستعيد نوعية الضوء والروائح في الحجرات الفارغة، كأنك تبحث عن ختم أثيري في كل حجرة من حجرات بيت الذاكرة.
هناك حيث تعلمنا كل شيء لأول مرة، فالبيت الذي ولدنا فيه هو أكثر من مجرد تجسيد للمأوى، بل هو تجسيد للأحلام، تلك الأصوات الحبيبة التي أصبحت صامتة الآن، ونستطيع القول بأن لكل منا بيت ذاكرة يشبه الحلم التائه في ظل ماضينا، وقد نندهش حينما نعود إلى البيت القديم، بعد تجوال سنين، فإن أدق الإيماءات تعود للحياة، كل الصور البسيطة والعظيمة تكشف عن جزء في حالتنا النفسية.
وقد تمت دراسة رسومات الأطفال التي تتعلق بالبيت، حيث تستعمل هذه الرسوم كوسائل اختبار لمحاولة فهم طريقة تفكير الأطفال ونوعية مشاعرهم، فحين يرسم الطفل بيتاً، فهناك تفاصيل مثيرة يمكن ملاحظتها واستنباط مشاعره منها، وقد تكشف عن مشكلات نفسية يعاني منها الطفل، فعدد النوافذ يشير إلى رغبته في أن يعرف الآخرون ما يحدث في الداخل، وإبقاء باب المنزل مفتوحاً يشير إلى ترحيبه بالآخرين وإلى وجود حياة صحية لدى الطفل، تقول آن باليف: «عندما تطلب من الطفل أن يرسم بيته، فإنك تطلب إليه أن يكشف لك عن أعمق حلم للملجأ الذي يرى فيه سعادته، إن كان الطفل سعيداً، فسوف يرسم بيتاً مريحاً تتوفر فيه الحماية والأمن، بيتاً مبنياً على أساسات عميقة الجذور». وحين يكون الطفل تعيساً، فإن البيت يحمل آثار تلك التعاسة.
يحتل بيت الطفولة في أعماقنا مكاناً قيماً، هالة من السعادة قد تحتوينا، وقد يكون العكس صحيحاً، فثمة أماكن نحبها، لكننا ننفر منها عندما تجمعنا بأشخاص لا نحبهم، أو حين تحصل فيها أحداث تسبب لنا الألم، صور الذكريات ترغمنا على تذكر ماضينا الأكثر بعداً، فالبيوت التي فقدناها، تظل باقية في داخلنا، وتلح علينا لأنها تعاود الحياة وكأنها تتوقع منا أن نمنحها تكملة لما ينقصها من حياة، وكلما أمطرت السماء عادت لي ذكريات بيت الطفولة القديم بتفاصيله، ممراته وحديقته، وما زال المطر في ذاكرتي مرتبطاً برائحة زهر الليمون، فحينما كنت طفلة، ما أن تمطر السماء، حتى أرتدي رداء المطر الأحمر، وأركض عابرة تلك السلالم الثلاثة من باب البيت الخلفي لأتجه نحو أشجار الليمون والنارنج في حديقتنا، وأبقى هناك أتأمل قطرات المطر وهي تنساب على تلك الأوراق الخضراء، وأراقبها بفرح طفولي يعود لي كلما أمطرت السماء.

* أكاديمية وتشكيلية بحرينية

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©