لا تأتي من فراغ ثقة الرئيس الأميركي ومرشح الحزب الجمهوري لولاية ثانية، في أنه سيفوز في انتخابات الرئاسة، بخلاف ما تدل عليه نتائج استطلاعات الرأي العام التي تفيد بتقدم منافسه مرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن. فقد فاز ترامب في انتخابات 2016، رغم أن منافسته في ذلك الوقت هيلاري كلينتون كانت متقدمةً عليه في الاستطلاعات حتى يوم الاقتراع. وكانت كلها تقريباً استطلاعات أجرتها شركات محترفة بالتعاون مع محطات تلفزيون أميركية كبرى. فقد أظهرت تلك الاستطلاعات تقدم كلينتون حتى اليوم الأخير بفَرْق تراوح بين ثلاث وست نقاط. صحيح أن هذا الفرْق أقل مما كان قبل إعلان مكتب التحقيقات الفيدرالي ‏(FBI) ‬في ‬29 ‬أكتوبر ‬2016 ‬إعادة ‬فتح ‬التحقيق ‬في ‬اتهام ‬هيلاري ‬باستخدام ‬بريدها ‬الإلكتروني ‬الخاص ‬في ‬مراسلات ‬رسمية، ‬وأثره ‬في ‬الأمن ‬القومي ‬للولايات ‬المتحدة. ‬لكن ‬هيلاري ‬بقيت ‬متقدمةً ‬على ‬نحو ‬أثّر ‬في ‬معظم ‬التوقعات ‬المتعلقة ‬بنتيجة ‬الانتخابات. ‬فقد ‬توقّع ‬مَن ‬استندوا ‬على ‬نتائج ‬الاستطلاعات ‬القومية ‬فوز ‬هيلاري، ‬الأمر ‬الذي ‬خلق ‬شعوراً ‬واسعاً ‬بأن ‬فوز ‬ترامب ‬كان ‬مفاجئاً.
ولا يعني ذلك أن استطلاعات الرأي العام في الولايات المتحدة غير دقيقة، أو لا تصلح لمتابعة تطور ميزان القوى في العملية الانتخابية، وتوقع نتيجتها. فقد حدث تقدم كبير في منهجيات استطلاع الرأي العام، وأدواتها، وكيفية اختيار العينات بطريقة علمية. ولم يكن هناك خطأ في الاستطلاعات التي أُجريت خلال حملة انتخابات 2016. كان الخطأ في إغفال خصوصية نظام الانتخاب في الولايات المتحدة عند قراءة نتائج الاستطلاعات. فهذا نظام فريد في عالم اليوم، إذ تحسم نتيجة الانتخابات أصوات مندوبي الولايات في المجمع الانتخابي (538 صوتاً)، وليس أصوات الناخبين الذين يُدلون بها في صناديق الاقتراع. ويهدف هذا النظام، وفق رؤية مَن وضعوه، إلى تحقيق عدالة انتخابية عبر تمثيل كل ولاية بعدد يتناسب مع مجموع سكانها في مجمع انتخابي يتكون من مندوبي هذه الولايات. ويقترع كل مندوب لمصلحة المرشح الذي حصل على عدد أكبر من الأصوات الشعبية في ولايته.
ولذلك، يمكن أن يفوز مرشح حصل على عدد أقل من الأصوات الشعبية في الاقتراع العام، لكنه نال أغلبية الأصوات في المجمع الانتخابي. وهذا ما حدث في انتخابات 2016، إذ فازت هيلاري في التصويت الشعبي، وتقدمت على ترامب بفرق نحو ثلاثة ملايين صوت، لكن ترامب حقق فوزاً كبيراً، رغم ذلك، في المجمع الانتخابي، وحصل على 306 أصوات مقابل 232 لهيلاري.
وذلك ما يقصده ترامب بحديثه المتكرر عن تفوقه الانتخابي رغم أن استطلاعات الرأي العام تُظهر العكس في الفترة الأخيرة. وقد لا يكون اعتقاد ترامب في تفوقه صحيحاً بالضرورة هذه المرة. لكن حديثه عن عدم الاعتداد بنتائج الاستطلاعات يُفيد متابعي العملية الانتخابية بشأن آلية قراءة هذه النتائج، بحيث تشمل هذه القراءة الاستطلاعات في كل ولاية، خاصة الولايات المتأرجحة، ولا تقتصر على تلك التي تُجرى على المستوى القومي.
ولذلك قد تصبح الاستطلاعات الوطنية التي تُظهر تقدم المرشح «الديمقراطي» جو بايدن بشكل مستمر منذ أكثر من شهرين مُضللةً إذا لم تؤخذ في الاعتبار الاستطلاعات في ولايات ربما تكون نتيجة الاقتراع فيها حاسمة، ومن أهمها ولاية فلوريدا التي فاز بها ترامب قبل أربعة أعوام.
وتزداد أهمية متابعة الاستطلاعات في هذه الولاية تحديداً بعد أن اشتدت سخونة المعركة الانتخابية فيها بعد زيارة ترامب ثم بايدن. فقد أظهرت استطلاعات أخيرة أُجريت فيها تراجع دعم الأميركيين من أصول لاتينية لبايدن، الأمر الذي يُعد نكسةً لحملته التي حققت تقدماً في أوساطهم خلال فترة سابقة. ويُعد «اللاتينيون»، والذين يُعَّرفون أنفسهم على أن أصولهم تعود إلى بلدان في أميركا الجنوبية والوسطى وإسبانيا، إحدى الأقليات التي يفضل أغلبيتها المرشح «الديمقراطي» عادةً.
لكن هذا التفضيل يتراجع الآن في فلوريدا، لأسباب أهمها إخفاق حملة بايدن في كسب ثقة الجاليتين الكوبية والفنزويلية، اللتين ركزت عليهما حملة ترامب عبر استغلال رفض معظم أفرادهما السياسات الاشتراكية في البلدين، ومن ثم اتهام المرشح «الديمقراطي» بأنه «اشتراكي». وإذا صح هذا التفسير، فربما تواجه حملة بايدن مشكلة كبيرة في فلوريدا، التي يُمثل المواطنون من أصول لاتينية نحو 25% من عدد الناخبين فيها، وتعود أصول كتلة كبيرة منهم إلى كوبا. لذلك يختلف الوضع فيها عن معظم الولايات الأخرى التي يزداد فيها ذوو الأصول المكسيكية بين «اللاتينيين» الذين قد تصبح أصواتهم فارقةً في تحديد نتيجة الانتخابات هذه المرة.