تزخر التحليلات والآراء الخاصة بالتغيرات الدولية، بما فيها الاقتصادية بالكثير من التناقضات، حيث تحاول العديد من القوى المؤثرة ووسائل الإعلام توجيه البوصلة باتجاه مصالحها، حتى ولو كان ذلك على حساب المصداقية من خلال تقديم فبركات وتقارير تتناقض مع البيانات المعلنة من مؤسسات مهنية مرموقة.
ولنأخذ على سبيل المثال، وبصورة مهنية مدعمة بالبيانات، الحديث المتكرر حول انتهاء عصر النفط، أو انتفاء اهتمام القوى العالمية بمناطق انتاجه، وبالأخص منطقة الخليج العربي التي تحتوي أراضيها على أكثر من نصف احتياطيات العالم، إذ لا تؤيد وقائع الأحداث الدائرة هذا الاستنتاج الخبيث أو الساذج، فإذا ما تناولنا اهتمام القوى العظمى والإقليمية، فإننا سنجد أن صراعها في المنطقة يتمحور أساساً حول منابع النفط، فالعراقيون تُركوا لمصيرهم الأسود يتناحرون فيما بينهم منذ التدخل الأميركي في عام 2003 دون أن يعيرهم أحد أي اهتمام، المهم أنه تمت السيطرة على منابع النفط الغنية، وتم رفع الانتاج تدريجياً من 2.5 مليون برميل يومياً إلى 4.5 مليون حالياً وصولاً إلى 6 ملايين مستهدفة.
أما سوريا المجاورة، فقد تركت كل المدن السورية حالياً ويدور الصراع حول من يسيطر على حقول النفط في منطقة «دير الزور» والحسكة وما حولهما، حيث تتواجد القوات الأميركية والروسية والتركية والإيرانية إلى جانب قوات الحكومة السورية، وهو وضع مشابه للوضع في ليبيا، إذ لم تعد العاصمة طرابلس أو بنغازي تشكلان أهمية كبيرة، حيث يدور الصراع حول «الهلال النفطي» في مدينة سرت، والتي توقفت عندها العمليات العسكرية بانتظار الاتفاق على توزيع هذه الثروة.
وفي اليمن يحتدم الصراع أساساً حول مأرب الغنية بالنفط، إذ لا يقتصر الأمر على الشرق الأوسط فحسب، فمن بين دول أميركا اللاتينية، فإن فنزويلا وحدها تعاني من الاضطرابات والصراع وعدم الاستقرار، والسبب أنها تعوم على أكبر احتياطي للنفط في العالم، والأمثلة كثيرة.
إذا كان النفط سلعة انتهت صلاحياتها، إذاً ما كل هذا الاهتمام؟ وكل هذا الصراع المتعدد الأطراف حول منابعه؟ الإجابة في البيانات التالية، وهي صادرة عن أرقى منظمة دولية مهنية ومتخصصة في الطاقة، وهي وكالة الطاقة الدولية ومقرها باريس، تقول المنظمة إن الطلب العالمي على النفط ارتفع خلال سنوات العقد الماضي بنسبة كبيرة بلغت 16% ليصل إلى 100 مليون برميل يومياً في عام 2019، أي قبل جائحة كورونا التي أدت إلى انخفاضه مؤقتاً، مقابل 86 مليون برميل يومياً في عام 2010، كما توقعت الوكالة أن يرتفع الطلب إلى 105.4 في عام 2030 وإلى 106.4 مليون برميل في عام 2040 في الوقت الذي سينخفض فيه الإنتاج في العديد من البلدان النفطية.
إذن نحن أمام عملية فبركة وصرف أنظار عن حقيقة قطاع النفط يرافقها حملات تخويف وفزع حول انسحاب الولايات المتحدة من منطقة الخليج والشرق الأوسط لانتفاء مصالحها النفطية واكتفائها الذاتي من النفط! من قال إن مصالح الولايات المتحدة والغرب عموماً تقتصر على النفط؟ هناك مصالح جيواستراتيجية عميقة ومهمة، كما أن القوى الغربية مهتمة بمنطقة الخليج العربي قبل النفط بقرون وستظل كذلك في فترة النفط وما بعده، فهذه المنطقة الحيوية من العالم تتعدد فيها المصالح التي لا تقتصر على مجال معين، لذلك لا تحاولوا ابتزاز دولنا بالانسحاب، فلا الولايات المتحدة الأميركية ولا غيرها من القوى الغربية ستقلل درجة اهتمامها بالمنطقة.
التهديدات بتراجع الاهتمام التي تروج لها العديد من القوى الدولية والإقليمية ترمي أساساً إلى الابتزاز أو إثارة الذعر لتحقيق مكاسب سريعة، علماً بأن ثقة دول الخليج بقدراتها العسكرية لم تكن بهذه القوة، كما هي الآن، وهي قادرة تماماً على حماية مصالحها.
الصحيح أن حصة النفط تتراجع في ميزان الطاقة العالمي، وهذا أمر طبيعي في ظل تطوير مصادر الطاقة البديلة والنظيفة، الا أن ذلك لا يعني إصدار شهادة وفاة للنفط! فعند اكتشاف النفط قبل 170 عاماً قيل إن عصر الفحم قد انتهى، إلا أن مناجم الفحم لا زالت تعمل ويتم استخدامه، كمصدر للطاقة، كما أنه من الصحيح أيضاً أن تعمد دول مجلس التعاون بالضرورة إلى تقليل اعتمادها على النفط وتنويع اقتصاداتها.