الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

«فتاة الساحل».. روح المكان

«فتاة الساحل».. روح المكان
19 سبتمبر 2020 00:12

إبراهيم الملا

في المساحة التبادلية الخصبة بين قابلية التأثّر والقدرة على التأثير، نجد الكثير من العوامل الحسيّة والعاطفية والانفعالية التي صنعت قيمة وموهبة الشاعرة الكبيرة «فتاة الساحل» في المشهد الشعري النبطي بالإمارات، إنها الشاعرة «آمنة بنت علي بن حمد المعَلا»، التي اختارت في بداية تجربتها الشعرية اسماً مستعاراً يوحي بمدى ارتباطها الوثيق مع الطبيعة وسحر الأمكنة، فكلمة «فتاة» تحيل إلى البدايات والبواكير وفورة المشاعر وتفتّحها، أما كلمة «الساحل» فتحيل إلى الوداعة والألفة والرابط الروحي المتصل بجماليات المكان، وبالبيئة البحرية تحديداً، واختارت الشاعرة لاحقاً اسماً مستعاراً جديداً، وهو «سلوان»، وهو اسم يمتلك بعداً حميميّاً مصدره «سلا»، أي مجاوزة الهموم ونسيان الحزن، وهو اسم مقترن بالفرح والبهجة والانتقال من حالة سلبية إلى حالة أخرى إيجابية، وهي أسماء اختارتها الشاعرة لتترجم التحولات الأسلوبية والنضج التعبيري في مسارها الإبداعي. وضمن قابلية التأثّر كما أشرنا، نرى أن الشاعرة آمنة المعلّا قد تأثرت في طفولتها بوالدها الشاعر الشيخ علي بن حمد المعلا، الذي كان له دور مهم في استلهامها لمعاني القصيدة الشعبية وكيفية سبكها واعتبارها جسراً ممتداً وحافلاً بالصور والتوصيفات والتشبيهات والاستعارات الجامعة بين الكلمات المعبّرة والأحاسيس المهيّأة للتوظيف أو الاستثمار الشعريّ. ومن خلال قدرتها على التأثير استطاعت الشاعرة آمنة المعلا أن تمرّر رسائلها الإبداعية إلى الأجيال الجديدة من شاعرات وشعراء النبط في الدولة، وكانت نموذجاً ساطعاً بالنسبة لهم فيما يتعلّق بعمق الوعي الشعري وتجذّره في الذاكرة المحليّة، ودوره الحيوي في توثيق العلاقة المثمرة جمالياً واجتماعياً بين الإنسان وبين ثقافته وتراثه وتاريخه. 
تناولت الشاعرة آمنة المعلا في قصائدها أغراضاً متنوعة ومواضيع متعددة، لعل أكثرها وروداً في سجلّها الشعري تلك الأغراض المتعلّقة بهاجس الحنين واستحضار الذكريات البعيدة لترويضها وإعادة تشكيلها في الذهن والتآلف معها في صياغة أدبية جاذبة للمتلقي، ومتفاعلة مع تطلعاته الذاتية الفائضة بمشاهد الماضي ومرابع الطفولة والاستئناس بروح الطبيعة وعفوية الأهالي، واجتماعهم في الحواري والبيوتات القديمة المسوّرة بالطيبة ولذّة الكلام وحسن المعشر. 

حول المواطن الاجتماعية المتصلّة بالذاكرة الشخصية تقول الشاعرة آمنة المعلّا:

«ذكّرتني بقيظ المنامة
وذكّرتني باللي يقيضون
القيظ وأيّام ازدحامه
والعِرْشْ لي فيها يَصَيْفون»
إلى أن تقول:

«روحي عليهم مستهامه
ألعي مثل لي صابه جنون
ملزوم نوقف في التزامه
ولصحاب عدنا ما يهونون
القيظ يا ما أحلى أيّامه
وإنتو عن الماضي تعرفون»

تصف الشاعرة هنا بعض التفاصيل المتعلّقة بفترة «المقيظ» المشتملة على طقوسها الخاصة، ومظاهرها المميّزة الأشبه بالكرنفال الشعبي، والأقرب للسياحة الداخلية القديمة باتجاه المزارع الشهيرة والمناطق المفتوحة والمتوفرة على مناخ أكثر لطفاً وبرودة مقارنة بالمناطق الحضرية المحصورة بمحاذاة السواحل، وتوثّق الشاعرة هنا لمنطقة «المنامة»، وكيف أنها تشهد ازدحاماً من المقبلين إليها في فترة المقيظ، مستعيدة صورة البيوت البسيطة المبنية من الخشب الخفيف وسعف النخيل التي يطلق عليها الأهالي في اللهجة المحلية: «العِرْش» أو «العرشان» أو «بيوت العريش»، واصفة هذه الألفة الجماعية الملتمّة والدافئة بأنها «أحلى الأيام» التي تركت بصمتها في الروح ولم تغادرها.
برعت الشاعرة آمنة المعلا أيضاً في توليف قصائدها الذاتية ذات المحتوى الغزلي العفيف، قصائد تتماوج بين ضفتي النأي والوصال، والهجر واللقاء، والغياب الطارئ والحضور العارم، مستعينة في البوح عن انشغالاتها العاطفية هذه، بما يمكن أن نصفه بالشاعرية المتمنّعة، التي يخفّ فيها منسوب اللغة المباشرة والنعت الصريح، بينما يطغى الرمز والإيحاء والمواربة التي يجعل شعرها أنثويا بامتياز، فهو مطرّزٌ بالحياء، ومزخرفٌ بالتلميح، ومن هذا المنطلق وضمن هذا المسار التعبيري الخاص يبرز سرّ عذوبة شعرها وسرّ طلاوته واستحواذه على انتباه المتلقي وتجاوبه مع مضامين القصيدة، فمن قصائدها الغزلية المعروفة التي أداها المطرب والملحّن الشعبي الكبير «علي بن روغة» تلك التي تحمل عنوان: «إسعفوني قبل لا ولّي» وتقول فيها:

«إسعفوني قبل لا ولّي
وقبل أجلي تحين ساعاته
حلّ بي بأقصى الحشا حلّي
والقلب ما ذاق راحاته
ونّتي ونّات معتلّي
ونّة اللي ضاعت أوقاته
حايرٍ ما كنّه ايدلّي
ضاع وابتعدت مسافاته
لي سعى بي ما تمهلّ بي
سار وأدعاني بآهاته»
إلى أن تقول:

«كم عذلت القلب بالكلّي
وكم بتحمّل مجاساته
هو حياتي هو ممات لّي
هو شفا روحي وعلّاته
شاغلنّي يوم بصلّي
في سجودي وكلّ ركعاته
نظرته تشفي من العلِّ
راحتي ساعة ملاقاته»

تصف الشاعرة هنا حالات التباين الحادّة التي يعانيها المحبّ، وكأنه على قلق دائم وتوتّر مقيم، وأن هذا التباين غير الملحوظ بالنسبة للآخرين هو المغذّي الأساسي لتراجيديا العشق، وهو المتوفّر على اللذة والحرمان وعلى الشفاء والسقم في آن واحد، «هو شفا روحي وعلاّته»، وهو الذي يخلق الحالة الفريدة لحساسية المحبة وتوابعها، فالمحبّ هنا حائر بين التناقضات كلها، وبين كيانه الحي والآخر الفاني «هو حياتي هو ممات لّي»، ولعل في هذا النزوع المستسلم لحالة التيه والبهتان، هو ما يجعل من الحبّ عاطفة محاطة دوماً بالحذر ومشمولة أبداً بالترقّب، فالمحبّ في حالة عطش دائم، وإذا حضر الماء، فهو حضور متسرّب ومنسلّ وغير كاف لإرواء الوله وإسكات الهيام إزاء مطلبه الحثيث بدوام اللقاء واستمرار الوصال.

ديوانان
صدر للشاعرة «فتاة الساحل» أو «سلوان» ديوانان شعريان هما: «نبع الفؤاد» في العام 1984، وديوان «سوايب» الصادر في العام 2011 عن هيئة أبوظبي للتراث والثقافة، وأعدت الديوان الثاني وجمعته وحققته ابنتها الشاعرة خلود المعلا، وجاء هذا الديوان في ‬124 صفحة من القطع المتوسط، وضم ‬52 قصيدة على مختلف الأوزان الشعرية، وذلك ضمن سلسلة شعرية حملت اسم «دانات من الإمارات»، وخصصتها أكاديمية الشعر بأبوظبي لتوثيق تجارب الشعر النبطي النسوي في الدولة، ويرد في ديوانها الثاني أن آمنة المعلّا نظمت قصائدها في مختلف الأغراض الشعرية، خصوصاً الجانب الوطني والعاطفي والاجتماعي، وأغراض الشكوى والمناجاة والعتاب، واشتهرت لها العديد من القصائد التي تغنّى بها عدد من الفنانين الإماراتيين، كما جارى بعض قصائدها شعراء معروفون، مثل علي بن رحمة الشامسي، وسالم الكاس، وربيّع بن ياقوت.
كتبت الشاعرة قصائد ديوانها «سوايب» في الفترة ما بين عام 1980 و1986 ميلادية، وسبق للشاعر والأديب الراحل حمد بن خليفة بوشهاب أن جمع عدداً من قصائد آمنة المعلّا ليضمنها كتابه المهم «شاعرات من الإمارات»، ونشرها باسم «آمنة - أم خالد».

بديع القول
تذكر السيرة الحياتية للشاعرة آمنة بنت علي بن حمد المعلا، أنها ولدت في إمارة أم القيوين التي قضت فيها كل سنوات طفولتها وأول سنوات شبابها، ثم رحلت مع عائلتها إلى مدينة «العين»، وهي المدينة التي ساهمت في نضج تجربتها الشعرية، لسببين مهمين، أولهما أن العين كانت الحاضنة الكبرى للأسماء الشعرية القوية في تلك الفترة، وكانت بموقعها الجغرافي وطبيعتها الخلّابة وحراكها الاجتماعي والثقافي موئلاً للشعراء الشعبيين الفطاحل، الذي قدّموا إسهامات لامعة ومضيئة في هذا المجال، أما السبب الثاني الذي أنضج التجربة الشعرية لآمنة المعلّا فتمثل في التوق الجارف، الذي ألمّ بها نحو أرض الطفولة وملاعب الصبا بأم القيوين، إنه الحنين مرة أخرى، الذي يمكن أن ننعته هنا بكيمياء الشعر، والمعادلة الذهبية في تجربة أي شاعر مبدع وملهم، كان الحنين بالنسبة لشاعرتنا هو وقود مجازفتها ومغامرتها في أرض القصيدة، بكل ما تحتويه هذه الأرض من جمال وقسوة، ومن وعورة واستواء، ومن حيرة واستدلال.
وبعد هذه التجربة الثرية التي غذّت المعجم الشعري لآمنة المعلا ببديع القول وقوة التعبير وخصوصية اللهجة وجزالة المفردة وأصالتها، انتقلت الشاعرة مع عائلتها إلى إمارة رأس الخيمة في منتصف الستينيات من القرن الماضي، وفي رأس الخيمة استقرت موهبتها وصار المكان هو بوصلة الرؤى، ومبعث الثقة، ومنطلق الإلهام، وفيه كتبت معظم نتاجها الشعري، وتصف الشاعرة رأس الخيمة في قصيدة جميلة لها تقول فيها:
«أمّي وأبويِهْ أرض جلفار
أعزّ عندي من حياتي
ما أبيعها لو بألف مليار
إن بعتها بابيع ذاتي
هذي احضنتنا كبار وصغار
أعزّها لين المماتِ
عندي تساوي كل لقطار
وفراقها ساعة شتاتي»

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©