نجحت أوروبا في الخروج من الجحور القاتمة، التي أدخلتنا إليها جائحة «كورونا»، عندما رفعت أربع من الدوريات الخمسة الكبرى الستارة عن مسارح الفرجة، بمباريات جاءت صماء لا صوت ولا صدى يسمع لها، وعندما أوصلت مسابقتي دوري الأبطال وكأس أوروبا ليج إلى خاتمتهما الجميلتين، وعندما فتحت العرائن عنوة، ودعت منتخباتها لتتبارى في إطار ما بات يعرف بدوري الأمم.
في مشهد عودة الحياة للمنتخبات الأوروبية، تعددت الومضات، إلا أن ما أومض في فكري وأنا أتابع مباراة للمنتخب الإسباني أمام المنتخب الأوكراني، وودية فرنسا بطلة العالم أمام وصيفتها كرواتيا، وجود لاعبين في عمر الزهور على أرضية الملعب، فقد جعل لويس إنريكي مدرب «الماتادور»، الشاب الغيني الأصل وجوهرة نادي برشلونة، إينسو فاتي أصغر لاعب يسجل هدفاً للاروخا، عندما مكنه من التواجد في التشكيل الإسباني، الذي هزم أوكرانيا برباعية نظيفة، لقد نجح إنسو فاتي في التسجيل في سن 17 سنة و311 يوماً، وهو الذي أصبح شهر ديسمبر الماضي أصغر لاعب يسجل هدفاً بدوري أبطال أوروبا، وعمره لا يزيد على 17 سنة و40 يوماً.
داخل المنتخب الفرنسي، كان هناك لاعب آخر من أصول أفريقية يصنع الحدث، فقد جعل ديدييه ديشامب مدرب منتخب فرنسا، من الشاب إدواردو كامافينجا ذي الأصول الأنجولية والكونغولية، ثالث أصغر لاعب يرتدي قميص الديكة، وقبل هاتين المعجزتين الكرويتين، سمعتم بكل تأكيد عن الساحر الفرنسي الصغير كيليان مبابي، الذي بات ثاني أصغر لاعب بعد الأسطورة بيليه يتوج بكأس العالم ويسجل في نهائي المونديال، ويصبح وعمره لا يتجاوز 21 سنة، أغلى لاعب في العالم، وقد ناهزت قيمته المالية 270 مليون دولار.
غير هؤلاء كثيرون، هم درجات ومستويات، وهم في الانتماء بالتأكيد للإصطبلات الكروية الكبرى متشابهون، بالطبع لم ينزلوا من السماء، ولم تأت بهم إلى عالمنا رياح الصدفة، بل إنهم نتاج لسياسة تكوين، رصد لها الفكر والمال والرجال، وتسلح أصحابها بالصبر وطول النفس وبعد الرؤية، واستحضروا في حياكة هذه المباهج الكروية كل المعايير العلمية، البدنية والفنية والنفسية، لتكون رافعة كرة القدم المستوى المبهر، التي تتساقط من شجرتها المورقة كثير من الأوراق البالية، وقد أينعت بداخلها أفكار جديدة تثور على النمطية في تحديد العمر الافتراضي لبروز المؤهلات.
بالطبع، لم يفاجئني هذا الذي وقفت شاهداً عليه مثلكم، الطفرة النوعية التي حدثت في منظومة التكوين، فأعطتنا لاعبين بأعمار صغيرة يلعبون كرة الخيال العلمي، ولا يحدثون في عزف السيمفونيات الكروية نشازاً، فما تقوله الأرقام عن حجم الإنفاق المالي للأندية الإنجليزية والألمانية والفرنسية فالإسبانية على مستوى أكاديميات التكوين يبطل كل عجب، ويدعونا معشر العرب إلى أن نقتفي أثرهم بلا خجل ولا عيب..