منذ وافق البريطانيون بأغلبية ضئيلة على الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، أثارت عملية الخروج سلسلة معقدة من المشاكل، ويكفي أنها أفضت إلى تغيير رئيسين للوزراء، وإجراء انتخابات برلمانية مرتين، واستقطاب حاد في السياسة البريطانية، إلى أن حقق بوريس جونسون انتصاره الكبير في الانتخابات البرلمانية في ديسمبر 2019، وبعدها وافق مجلس العموم على الخروج. وفي 24 يناير 2020 وقّعت رئيسة المفوضية الأوروبية ورئيس المجلس الأوروبي، مع جونسون، الاتفاقية الخاصة بتنظيم الخروج. وفي 29 يناير، صادق البرلمان الأوروبي بأغلبية كبيرة عليها، وقد نصت على فترة انتقالية، مدتها 11 شهراً، تنتهي آخر العام، تواصل فيها بريطانيا ودول الاتحاد تطبيق قواعد التجارة المعمول بها داخله، لتجنب فوضى اقتصادية، على أن يجري تفاوض حول اتفاق تجاري أوسع ينظم العلاقات التجارية المستقبلية بين الطرفين. وساد الظن بأن مشكلات البريكسيت قد انتهت، رغم صعوبة المفاوضات، إلى أن ألقى جونسون بقنبلته المتمثلة في سعي حكومته إلى تقديم تشريع للبرلمان، تتحلل بموجبه من بعض التزاماتها، بموجب اتفاقية الخروج. ومما زاد الطين بلة أن هذا التحلل طال البند بالغ الأهمية، المتعلق بأيرلندا الشمالية، والذي نص على أنها ستظل جزءاً من ترتيبات السوق الأوروبية الموحدة، وبالتالي فإن أي سلع تتجه من بريطانيا إليها، يجب أن تخضع لتفتيش وتعريفة جمركية، لأنها قد تدخل أيرلندا الجنوبية، العضو في الاتحاد الأوروبي، وبالتالي السوق الأوروبية الموحدة. ومعروف أن السبب في هذا الوضع الخاص لأيرلندا الشمالية، كجزء من المملكة المتحدة، يرجع للحرص على الحفاظ على السلم الأهلي فيها، حيث إن اتفاق «الجمعة الطيبة» 1998، الذي أنهى النزاع الأهلي الذي دام فيها 30 سنة وراح ضحيته 3500 شخص، يؤسس لعلاقة خاصة مع أيرلندا الجنوبية.
برر جونسون خطوته بأن النص المطلوب تعديله يعزل أيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، وهو محق في هذا، غير أنه وافق على هذا النص بمحض إرادته في يناير الماضي، وهو يدافع عن موقفه بأن عزلة أيرلندا الشمالية هذه لم تكن واضحة عند توقيع الاتفاق، وهو عذر أقبح من ذنب، لأن رئيسة الوزراء السابقة رفضت هذا النص، عندما كانت في السلطة، والأهم أن اتفاقية الخروج معاهدة دولية لا يجوز القول بأن البرلمان البريطاني له حق سيادي في تعديلها، لأن التعديل يتطلب تراضي أطرافها، وهم هنا الاتحاد الأوروبي الذي رفض الخطوة بوضوح، أو اتخاذ إجراء من طرف واحد، بحجة تغير جذري في الظروف من حق جونسون أن يدعيه، غير أن مشكلته أن الاتحاد الأوروبي لن يقبل بوجهة النظر هذه، وسيعتبرها نكوصاً من بريطانيا عن التزامات دولية يهز الثقة فيها، والأهم أنه سينعكس على مفاوضات التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، الذي سيكون من حقه أن يتشكك في جدوى أي اتفاق يوقع معها، طالما أنها تتنكر لالتزاماتها الدولية بهذه البساطة.
ولا تتوقف التداعيات على علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، وإنما لن تقل التداعيات الداخلية خطورة، فقد استقال رئيس الدائرة القانونية بالحكومة احتجاجاً، وعارضتها رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، واستغربها وزير الخارجية الأسبق وليام هيج، وتعجب زعيم «حزب العمال» من إثارة مشاكل اتُفق عليها، بينما يجب أن يكون التركيز على مفاوضات التجارة الحرة، والأخطر أن خطوة جونسون أحيت الحديث عن سعي أسكتلندا المعارضة للخروج أصلاً للاستقلال، وكذلك أيرلندا الشمالية، ويأتي هذا كله في وقت صعوبات اقتصادية خانقة، سببها كورونا وحديث عن تقصير جونسون في إدارة أزمته.. فهل تقضي هذه الخطوة على مستقبله السياسي، خاصة أنه ماضٍ في مغامرة الخروج بكل مخاطرها وحساباتها التي اتهمه خصومه بأنها كارثية؟

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة