ماذا يفعلُ بنا الرحيل؟ أي ألم يتركه في قلوبنا وأرواحنا! الفقد يأخذنا نحو الأعمق من المشاعر، ويصير قريناً للوقت، وللذكريات، وللأيام التي يتداولها الناس وهي في الأصل دُول، نتعلم من أحداثها الدروس والعِبر، ومن بين دفاترها نقلّب الأوراق بحثاً عن مرافئ للأمان، فعند الرحيل تبدو كل الأشياء من حولنا ضئيلة جداً.
بالأمس كانت بيننا نوراً يضيء حياتنا فينثر فيها الفرح، لكن مشيئة الله أرادت غير ذلك، وقالت الأقدار كلمتها ورحلت من كانت أمّاً لمن حولها، وأختاً، وصديقةً. رحلت من عرفت سخاء القلب، وكرم اليد، ورقي التعامل. رحلت من كانت متواضعة النفس، مهذبة الروح، وطيبة المعشر. رحلت صاحبة الابتسامة الدائمة، حسنة الكلم، كثيرة الصبر. أيُّ نكران للذات كانت تملكه، ورهافة إحساس!
لوحشة الوحدة تتركنا رفيقتي ومالئة قلبي أم منصور، ولاغتراب النفس وانفطار القلب وحرقة الدموع تُودِعُني. فمن أنا ومن نحنُ بعدك وبعد غيابك؟!
غادرت حياتنا الدنيا أم منصور، فخلا البيت فجأة علينا، وانطفأ ضوء فناره، وضاق بي المكان رغم اتساعه. سكني وزوجي وأم أبنائي تركتني لفجيعة غيابها بلا مقدمات. فمن بعدك يا أم منصور سيملأ كل الفراغ الذي سكنني منذ أول لحظة انقطعت فيها أنفاسك، ومن يضيء جانباً من العتمة التي تحاصرني وأبناءك من بعدك؟!
في لحظة رحيلك انغرس سكين في قلبي، ولن يشفي الجرح الغائر في الروح أحد بعدك. نعم.. أنا راض بقضاء الله ومسلّم به، لكنني مكلوم ومفزوع لأنني سأمضي دربي وحيداً من دونك يا رفيقتي ونديمة كاس حياتي.
أسأل ذاتي بعد مضيّك في طريق لا عودة منها: أي صدوع ستصيب بنيان حياة البيت وأهل البيت؟! وأي موازين ستنقلب لأننا لن نتمكن من رؤياك أو سماع همسك؟! إلى الأبد رحلت ما بين طرفة عين وغمضتها ليبدل الله أحوالنا، ولا شيء يمكن أن يهب الروح صبراً إلا الإيمان بالقضاء والقدر، فلا أحد راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه ولا غالب لأمره.
بدونك.. ها أنا أبيتُ في ظلام، وقد عرّى موتك سري وسريرتي، وذرفت عيناي دموعاً مدرارة، فلا تستكثروا عليّ ذلك وأنا الإنسان الذي يبكي، والبكاء مقدرة وحكمة منحنا الله إياها نحن البشر.. وأنا الشاعر القادر على ترجمة مشاعري، والشعر أبيات قليلة تغنيني عن قول الكثير.
نعم أنا اليوم كسير الجناح، ضعيف القلب، أسير الحزن، كليم الفراغ، فرفيقتي ذهبت في طريق جنتها وهي التي كانت جنتي في الحياة. أجمل ذكرياتي عشتها معها، ولها أدين بالفضل في تحمل الكثير من المشاق. كانت خير عون لي، تدعمني، وكلما خطوت إلى الأمام خطوة جددت ثقتها بي وأعلت من طاقتي وهمتي.
مثل ربان ماهر قادت سفينة بيتنا بكل ما فيه ومن فيه، وأودعت به من سرِّ روحها، وأوصلتنا إلى بر السلامة، لكنها لم تدرك أنها عندما تركتني ومن حولي من أبنائنا وبناتنا وأحفادنا وحفيداتنا أودعتنا كلنا للفراغ.
أم منصور.. أشهد بحق أنك كنت المرأة الصالحة التي (لا يعدلها شيء لأنها عون على أمر الدنيا والآخرة) كما يقول ابن المقفع، و(أجمل هدية منحني الله إياها) حسب سقراط، و(المخلوق بين البشر والملائكة) كما يشرح بلزاك، لكنك (الأمانة التي كانت على الأرض ثم عادت روحها إلى بارئها) كما أؤمن.
تغمدك الله بواسع رحمته، وأحاطك بأشجار الجنة، ومنحنا نحن – الذين تركتهم من بعدك – السلوان، وأدخل في نفوسنا سكينته وسلامه.
إلى ديار الحق رحلت صديقتي ورفيقتي، وإني إلى تلك الديار راحل لكن يعلم الله وحده كم سألبث بعيداً عنها. عذراً من قراء أحرفي.. فوالله إن الحزن لهو حزني الشخصي، وإن الفقد لهو فقدي الشخصي كذلك، ولكني لم أستطع منع دفق مشاعري، ولا إيقاف عواصف ألمي، وأنا الذي أعيش لوعة غياب المرأة التي أهدتني أجمل ما عندها فأضفت على حياتي ما كانت تملك من بهجة وحكمة وحسن تصرف.
نامي في مستقرك الأبدي يا من كنت توأم أيامي وأحلامي، وزهرة البيت، وريحانة القلب.