بعد انهمار زخات «الوباء الحاد»، الذي صاحبه اختلاف كل ما سبق وتعارف عليه الإنسان في كل حدب وصوب، انقلبت الهرمية وتبعثرت مؤشرات البوصلة التي كانت منحازة إما لأقصى الغرب، أو للشرق، بحسب معطيات موضوعها الضخم التميزات، أو الذي يكاد يحبو ليندرج لـ «المتجه للنمو». كما تنازلت كافة الدول عن الشك الذي راودها تجاه حقيقة الوباء، وحقيقة ترساناتها البهية، سواءً أكانت إدارية، أم تكنولوجية، أم صحية، أم علمية. لتجد نفسها أمام حرب باردة، وتعايش محفوف بالقلق. 
لا شك أن العالم يستوعب حتمية مصيره في مواجهة شراسة التحدي ذي الحدين، ويتطلع باضطراب لتداعياته الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية خاصةً، ويلتف حول طاولته المستديرة التي تحمل عناء تهديدات الحرب النووية أولاً، وتزايد مخاطر الاحتباس الحراري المؤذن بقدوم الكوارث الطبيعية العريضة ثانياً. متناسياً ما قد يؤول إليه التزمت في هذه المحدودية، فهو قد بدأ في رحلة البحث عن مسكن مؤقت للعَطَب الذي أصابه، بينما لن يوائم ظروفه إلا إيجاد مضاد حيوي ومن العيار الثقيل! 
يقال في سياق النقد: «لا تنصحني أمام الناس فتفضحني، بل انصحني لوحدي فتصلحني»، ولكن ذلك لم يعد صالحاً للتعميم اليوم، فحتى هذه المقولة طالها لون جديد في زمن «كورونا»، إذ لابد من السعي نحو التعافي الفكري، لا انتهاج مبدأ «سبات الانتظار»، الذي دفع الكثير من الشعوب لمشاهدة حدة الارتفاع في أعداد الوفيات، والبقاء في قوقعة «الآخر»، وترقب موعد اكتشافه للعقار، مع أنه كان ينظر له كـ«وحش»، ليصبح اليوم «المنقذ». 
العالم اليوم يتعطش لعقلية الحركة الاجتماعية، الساعية لإيجاد الحلول، دون التوقف عند عثرات النيوليبرالية، أو اقتصاد السوق الذي لا يكف عن التزايد، إذ لا يمكن ترك مصير العالم تحت مطحنة النيوليبرالية، ولا يمكن للبشرية الوقوف بانتظار قدرها المقسوم لها من «الخيانة الفكرية» التي سببتها لنفسها، والتي ستصطدم بها حال استنتاج أن ما كانت تسعى للحفاظ عليه هو مجموعة بروتوكولات وعادات موروثة، لا ثقافة أصيلة ولا حداثة متينة.
وقد يتبادر للقارئ أن الأجدى بهذا المقام والكثر من أمثاله، التوجه لإنتاج السلع الملموسة والأفكار العملاتية سريعة التحقق، للنجاة من الوضع الآني، ولكن ذلك لا يعد ترياقاً، فالظرفية التي مرت بها شعوب العالم، دون استثناء، تتطلع اليوم لنقلة نوعية تبدأ من طبيعة البناء الفكري باعتباره المحرك الرئيسي لما يبنى من أفكار، وما يتخذ من قرارات، وليس بأدل على ذلك من التجارب السابقة.
وعلى سبيل المثال، في الوقت الذي أعلنت به الدراسات والتحاليل الانتهاء من تفسير التسلسل الجيني لفيروس سارس الذي ظهر في 2003، خلصت النتائج لقدوم فيروس أكثر فتكاً مما سبقه، وهو الذي نجابهه اليوم (Covid -19)، ورغم إصدار منظمة الصحة العالمية تحذيراتها من تفشي الأوبئة التنفسية غير المعتادة آنذاك، وبدلاً من الدأب لانتشال البشرية من خطر محدق، آثرت الكثير من شركات الأدوية الإطفاق في إنتاج المستحضرات التجميلية «الأعلى مبيعاً»، لإتخام خزينتها وزيادة سهم أرباحها، دون الالتفات لمصير شعوب احتُجزت اليوم بفعل الوباء، قاب قوسين أو أدنى، داخل عزلة اجتماعية، وعوز وظيفي، وشرخ واسع من الفقر والجوع، هذا فقط فيما يخص الأفراد. ومن ذلك لو كان هناك بناء فكري وأخلاقي رصين وقناعة بأن الإنسانية هي الأساس في السير بكافة المجالات، لما طغت المصلحة الفردية على مصلحة «الكل»، ولو كانت المنظومة الفكرية ناضجة، لما اتجهت للرد على التطرف بالإساءة، كما حصل بإعادة نشر رسوم «شارلي ايبدو»، في حين يقوم القضاء الفرنسي بعمله على أكمل وجه، رادعاً لكافة مظاهر الإرهاب والكراهية. وهناك الكثير من النماذج اليومية التي تؤكد مناطق الضعف في التفكير الإنساني، والمساحات الشاسعة بين البنى الثقافية المعوزة للتقارب والتعارف. 

قد ينجح الإنسان في عزلته عن الاختلاط الفطري ببني البشر من جلدته، متخفياً عن الفيروس «اللامرئي»، ولكنه لا يستطيع أن يختبئ طويلاً من الفيروس الفكري، فهو مضطر لمواجهة الواقع، والانطلاق في مجالات الحياة من خلفيته الفكرية، ومحصوله الثقافي الذي يعتبر أحياناً «شحيحاً»، وإن لم يكن، فهو محكوم كالكثير من الدول – مثلاً - باتباع الأقوى، أو بالخنوع لتهديد العواقب اللاحقة، والفرق بين هذه الدول والإنسان المفرد، أن الدول محكومة بقواعد ومعادلات كبيرة جداً، أما الفرد فهو يختار الحكم على نفسه بـ«الحظر» الثقافي، والـ«حجر» الفكري، أو المشاركة في صناعة اللبنات البانية للحضارة الإنسانية القادمة الجديدة.
*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة