لدينا واحد من «الأخويا» الطيبين، شغل زمان، الله أنعم عليه، لكنه لم يتخل عن طيبته وتواضعه وبساطته، وتلك الفطرة والسجية التي يتمتع بها، ولا يحب أن يفارقها، تجده يرسل من خيرات مزرعته للمستأجرين عنده في العمارة، وفي رمضان يخصهم ببعض من الإفطار، ويرسل من زكاته وصدقاته للمتعففين، والذين كثيراً ما يسامحهم في أشهر أو يغض الطرف إن تأخروا في الإيجار، يتوسط في علاجهم، ويقضي طلباتهم، الكبيرة وحتى الصغيرة، كأن يساعد في استخراج رخصة سواقة للمعلمة «تهاني» في سنة إعارتها الأولى، و«سواقتها لك عليها» أو يسَفّر بعضهم للحج أو العمرة على حسابه، ودائماً إذا ما اشتكى مستأجر، يضع اللوم على حارس البناية، ووكيل عمله في الوقت نفسه، كنت أقول له: أنت لا تصلح أن تكون كما يقول الإنجليز في تعريفهم لملاك الأراضي «Land Lords»، وأن المستأجرين عندك محظوظون، لأن القليل منهم من يترك شققك، إلا إذا ما ترك أحدهم البلد أو كبرت عائلته أو هاجر إلى كندا، بحيث أن بعض المستأجرين المقيمين «ما أقام عسيب»، تجدهم من أيام كانت وزارة المعارف، وبناية «بن صبحا»، وحريق «بارهوز»، فيرد: «دفاعة بلاء.. هذيلا مثل أخواني وساكنين عندي»! 
«خوينا» رغم تلك السماحة، وأن عمارته شبه سبيل، لكنه يميز الطيب من الخبيث بفراسة بدوي، ويعرف إذا ما جاء فلان من المستأجرين، وهو يلبس كندورة عربية دلعاء، أن تحته شيئاً، و«بَدّه يودي الحاجة على الضفة هالسنة»، وإذا ما مر عليه «دسوقي»، وهو عادة ما يمر عليه للسلام في رمضان، وقبل إجازة المدارس، فيدرك أن في رأس «دسوقي» «دعاسج».
ويوم ما من وقتنا الحاضر، وفد على بنايته مستأجر جديد، بالكاد وصل من الجمهوريات الجديدة المستقلة، شاب كبر أصغر أولاده، والصدفة وحدها التي دلته على عمارة أهل السبيل، وسكن فيها تمهيداً لحضور زوجته الشابة، لكنه قبل ذلك مشط الشقة بأكملها، وأعاد صبغها وتعقيمها، وصرف من جيبه على تطهيرها من الحشرات والقوارض ومكافحة الآفات، وفرشها كما ينبغي لزوج شاب جديد، وخريج يشق أول درب مستقبله كما يبدو.
في البداية بدأ يشكو من روائح طبخ الظهر الذي يفحّ من الشقق ليبهر ويبخر كل العمارة، ومع تلك الرطوبة اللزجة المتسربة من الخارج، وبرودة مكيف «سنترال» أميركي قوي، ظل يشتغل ويكد ويكح منذ سنوات دون صيانة حقيقية تليق به، الأمر الذي يجعل مدخل العمارة مثل رائحة قدر «منسف» بارد، فكان رد الناطور عليه بكلمتين: «بكرا.. تتعود»! فاضطر أن يشتري دافق الروائح، ومصفي الجو من الأدخنة، لأنه كما شرح لناطور العمارة، ولم يفهم عليه كثيراً، ولم يرد مناقشته، وانصرف مهرولاً ليساعد السيدة التي تسكن في الدور السادس عشر، حاملاً عنها أكياس الجمعية: أن السبب في ذلك خوفه على رئتي زوجته، وشعبها الهوائية، وحين أغلق المصعد على السيدة وأكياسها التفت إليه الناطور مكملاً حواره: «طيييب»!..
 وغداً نكمل..