من بين تلك المدن التي كانت مهبطاً كل الأوقات، ثم باعدت بيننا السنون، إسبانيا والنمسا.. إسبانيا بمدنها الكثيرة والمتنوعة والزاخرة بالمختلف والبسيط والجميل، كانت الزيارة الأولى لها في أواخر السبعينيات، بحفنة من «البيزتا»، وتجربة عمر قصيرة، ولا لغة تساعد، ويمكن أن أتوكأ عليها، عبرت لها من جبل طارق قاصداً أن أرى الأندلس المفقودة، يومها كنت مغرماً حد الوجد، عاشقاً دنفاً لكل أشياء الماضي، وعبق التاريخ، لا يسيّرني إلا محبة الجمال في دروب المدن، وقلت لو حُرقت تلك السفينة الموصلة، ولم يكن ورائي إلا البحر، ولا أمامي غير الأندلس، فسأمكث أجوب تلك الديار، لا أغادرها إلا وأنا مُحَمل بالعلوم والمعارف، وما تكسبك إياه الأسفار، جارّاً معي زفرة العربي الأخيرة تحسفاً وندماً على ممالك عصفت بها الريح في غفلة من أهلها، في ذاك اللقاء الأول، والذي بقي عزيزاً دافئاً طوال الوقت، زرت إسبانيا حينها كلها، غير أن قلبي ظل معلقاً في قرطبة وغرناطة وإشبيلية، فهناك ذقت أشياء لأول مرة تسعفني الحياة بتذوقها، وتلمست مفاتن الجمال في الأبنية والمآكل والمشارب والمغاني والفنون المحيطة بك أينما وليت، وألفة الدور الأندلسية، وطيب الناس، وشقاوة الحياة ومرحها حين يمكن أن تختصرها «سارة» بنت بلد الوليد، وكنت حين أعاود المجيء لإسبانيا تجدني أتتبع خطى الزيارة الأولى، بالاطمئنان على الأمكنة والوجوه ومخابئ الذكريات، وما لا أريد للزمن أن يبدله أو يمحوه، غير أن الزيارة الجديدة بعد كل ذلك التباعد بعقدين ويزيد، جعلتني في ليلة خريفية، بارد هواؤها أن أدع السعادة تغمرني دون سقف في ذلك المطعم الفاخر الذي يحتل خاصرة فندق «الريتز» العريق في مدريد، ساعتها شعرت بصدق كم هو بالغ سحر المدن فينا، وكيف تفعل بنا الأشياء، حين تجعل كل ذلك المخزون يتداعى من الرأس إلى القلب دون ما استئذان.
أما النمسا فقد اختصرتها في مدينتين «فيينا وسالزبورغ»، حيث يمكن للفن أن يتجلى في أبهى صوره، والموسيقى وحدها الرفيق الذي لا تمله حقائب السفر، والمشاهد الطبيعية الخضراء التي تشبه كل القرى في الريف الأوروبي تزاغي عينيك، تبصرها وتود لو تبصر المساء حين يأذن لليل بالتسلل أو الصباح حين يتمطى فجراً داعياً الشمس الخجلى أن تسلم على الشرفات، في فيينا كانت صباحات عابقة بالود والورد ورائحة القهوة الإيطالية، صباحات كانت مرتجفة من تلك النسائم التي تأخذك من باب الفندق، وتظل ملاصقة حتى نهاية رجوعك من تعب الأقدام، وصبر المسافات، في «فيينا وسالزبورغ» عليك أن تدع الأشياء تتحدث، ولا تعاند النفس، حتى الفراغات هناك شيء جميل يسكن فيها، فكيف إذا ما وجدت مقاهي عمرها يقارب الخمسمائة عام، وكأنها من أحجار سورها المقاتل، لا أدري دوماً لِمَ يوحي لي المقهى بالفرح والسكينة، حينما أراه قابضاً على زاوية في الرصيف أو فاتحاً شبابيكه للمارين كدعوة مشبعة بالاشتهاء، المقاهي هي ضحكة المدن، وضجيجها المرح، وهي التي أوزعتني أن أترك التاريخ ورائي، وأذهب مغامراً نحو ضفة أخرى منه، ربما كانت هناك ثمرة من تلك الشجرة أو رزق كريم، وأن أجوس مع «سالومي» الديار، فما كان يفرقنا فيه التاريخ وانتقامه، ها هي الجغرافيا تعطينا مساحة معشبة بالاخضرار، ودوام تدلي العناقيد، كي نتسامى، ونعلو على ثارات التاريخ البعيد.