بعض المدن تغريك، وتثريك، وتغنيك، وتسير بك كجدول بين أهداب الزهور.
بعض المدن تتجلى فيك، ريحاناً، وزعفراناً، وألحاناً، وأفناناً، وأشجاناً، وأقحواناً، يتسرب فيك جذلاً وعدلاً، وسهلاً، ونهلاً، يأخذك إلى حيث تسكن السائرات في فيافي السماوات، ونجود الأرض.
بعض المدن تخضبك، وتخصبك، وتصخبك، وتمنحك الفصاحة، والحصافة، وتذهب بك إلى صور أزهى من أحلام الطفولة، وأبهى من عيون الطير، وأجمل من وريقات الزهر وأنبل من شفافية السحابة.
بعض المدن، تحملك على أجنحة الفراشات، وتلون فيك المعنى وتشكل فيك مشاعر أرهف من قد ذات اللدانة، والبضاضة، بعض المدن كشراع سفينة تسافر بك إلى محيطات زعانف أسماكها مراوح الأبدية، موجاتها رفرفات جفون السرمدية.
بعض المدن، تدوزن فيك الأفكار، وتجعلك سيمفونية سحرية، لا قبل لها، ولا بعد.
بعض المدن لها نسق العناقيد المذهلة، وبرق السحابات المزلزلة، وحدق الأساطير الموغلة.
بعض المدن، كحسان جلسن على عروش مجللة، واكتسبن من لدن حكيم عليم، الفرادة والنجابة، وأخذن من بريق النجوم، صوراً جعلنها تضيء في الأرض أفئدة، وأرواحاً.
بعض المدن تختال ضاحكة، وفضاءاتها، لها سمات الأنهار، وصفات المحيطات، تجدد شراشفها فلا تبلى، وتحدد مساراتها فلا تتحدد، بعض المدن تروي لك قصة تاريخ، بدأ في أول البدء، ولم تنته حكايته، ولم تمل القلوب من سردها، وتوريثها لمن سيأتون، ويقرؤون، ويكتبون من جديد المآثر، والمخابر، والمسابر، ويمضون نحو القادم، بثقة النبلاء، وعزيمة الأوفياء، وإرادة الأولياء.
بعض المدن في كل يوم هي حفل فرائحي، أساورها من ابتسامات الذين يعشقونها، وخلاخيلها من لمع عيون الذين أصبحت مشاعرهم، حريراً، وأفكارهم رحيقاً.
 بعض المدن، ليست مدناً، وإنما هي لوحة تشكيلية، صاغ رسمتها فنان، من حبر الحب، وريشة المعاني الجليلة.
بعض المدن، لا تفكر أنت فيها، وإنما هي التي تفكر فيك، لذلك فهي في كل يوم ترتدي لك فستاناً، وفي كل لحظة تهديك ابتسامة، وفي كل وقت هي جاهزة لمعطى جديد، وأنت القادم من أسئلتك الكبرى، تقف مذهولاً، وأنت تتملى وجه المدينة بنقشه، ومنمنماته، المدهشة، أنت الداخل في فسيفساء الوجود، ترى نفسك في المدينة كمن ينظر إلى وجهه في مرآة خرافية مرعبة.
بعض المدن هكذا تتجلى مثل مخلوب عجيب رهيب، مهيب، غريب، رطيب، خصيب، صخيب، تراه، فترعشك النظرة، وكأنك في النور الإلهي، كأنك في الصبابة، تسري بك في الزمان، فتمنحك الثقة بوجودك، تمنحك لغتك، لتتماهى والكون الوسيع.