كان عصفوراً عصبياً، متوتراً، متهوراً، متضوراً، فلا يحل حتى يفر، وكأن على رأسه شوكة وخازة.
ظللت أتابعه، وأتربص به، وأتحين الوقت الذي يهبط به من علو شاهق، إلى منخفض يقترب من جذع الشجرة التي يعبث دوماً بأوراقها، ويسلب منها الثمرات الطيعة، ولكن بعد حين من الوقت، وبعد أن أمعنت في تسييل لعابه بحبات القمح، أو ذرات الرغيف المقدد، هيض العصفور جناحاً، وأصبح للزعيق زقزقة، تشيع منارات العزف على أوتار القلب.
لبثت هكذا أروض الصغير المرتبك، وأربت على مشاعره بحبات الحياة، وأمنحه الألفة والطمأنينة، صرنا عصفورين نرفل بأجنحة الحب، صرنا طائرين نرفرف بريش البهجة، وكانت في عينيه شعشعات البريق الأنيق، كانت في عينيه لمعة الولاء والانتماء إلى المكان، وأصبح في الأرض التي يثب على أديمها، مآلاً، وموالاً، ومنالاً، واحتمالات الارتقاء على سلم الوفاء بكل جدارة، وإتقان.
أصبح العصفور في كل صباح، ينزل من مرفق السدرة التي كان يثوي إليها، ويرفع النشيد عالياً، وينظر إلى حيث الباب الذي أطل منه، ويرقص رقصة الباليه الرهيبة، ويخب ويجب، ويدب، ويحدب، ويصخب، ويخصب ويطرب، ويسهب في التغاريد، وكأنه في حفل فرائحي، وعيناه تشعان بوميض سحري يسلب اللب، ويخلب القلب، وكنت في الآونة نفسها أسحب من وعاء الرمق اللذيذ ما يملأ جعبة العصفور، ويشخب روحه، كنت في ذروة اللذة وأنا أغزل فتات الرغيف اليابس بين أصابعي، وعينان تشخصان في ذلك الكيان الرهيب، في ذلك البيان الرباني المهيب كنت أشعر أن الحب وحده هو الذي يخيط قماشة الحياة من دون رقع، ولا بقع، الحب وحده يشيد بناء قصيدة، ما كان بالإمكان استكمال أبياتها من دون هذا الإكسير العجيب، وأيقنت أنه بالحب تملأ السحابة وعاء الأنهار بالعذوبة، وأنه بالحب تسدل النخلة عناقيد اللذة، وأنه بالحب تنحني الأعناق لربقة الأمل، وأنه بالحب تتطور القطرات نسلاً، لتصبح وادياً ذا زرع، وضرع، وأنه بالحب تلبس السماء شرشفها الفضي، ثم تبلل من ريقها شفة التراب، ثم تنمو في أحشاء الأرض أجنة الاخضرار.
وأنه بالحب، تغسل الموجة محيا السواحل، لتصفق الزعانف، محيية هذا العناق الجميل، وأنه بالحب تبدو الحياة مثل وردة برية تعطي الأنام من عطرها بلا شروط، ولا تمنع.
وأنه بالحب تبدو الأفئدة مثل عيون الطير بلا غشاوة، ولا رخاوة، وأنه بالحب غادر مملكة الناس، الغضون والشجون، وكل ما ينغص، ويملأ القلوب بالغصص.
وأن الحب، هو اللغة الكونية التي تجمع الكائنات في وحدة وجودية، لا عثرة فيها ولا نفرة، هي سجادة الحرير التي تلف طياتها على مشاعر الكائنات أجمع.