أظهرت جائحة كوفيد- 19 العيوب الكبرى التي تواجه المدن الكبرى، وفي الوقت نفسه، أظهرت احتمالات صعود المدن الصغيرة. والحال أن الحديث عن التحولات والتحديات التي ظهرت بوضوح في الجائحة، مثل العمل والتعليم والتسويق من خلال الشبكة، لا يعني بالتأكيد أنها نشأت بسبب الوباء، لكنها كانت قائمة، وتتحدى المدن والحضارات، وتواجه في الوقت نفسه ضغوطاً بسبب المصالح الراسخة حول الواقع القائم للمدن والمؤسسات والطبقات، لكن قانون التاريخ يؤشر إلى أن الظواهر الجديدة والقديمة، في صعودها وانحسارها، تحتاج إلى حوادث كبرى وحاسمة، فالإمبراطوريات على سبيل المثال، والتي سادت قروناً طويلة في العالم، بدأت منذ الثورة الصناعية تواجه احتمالات الفناء، في مواجهة صعود الدولة المركزية، لكنها بقيت تقاوم الفناء وتعيش حالة احتضار، حتى قضت عليها الحرب العالمية الأولى. 
يتحدث اليوم مفكرون وباحثون، مثل أستاذ التاريخ بجامعة برينستون هارولد جيمس، عن احتمال انتهاء حقبة المدن الكبرى التي يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين، والتي بدأت بالظهور والنمو في القرن العشرين، حتى صار بعضها مدناً عملاقة، مثل نيويورك، والقاهرة، وطوكيو، وكراتشي، وأوساكا، وشنغهاي، ومومباي، ويلاحظ باحثون مثل أستاذ التنمية بجامعة أكسفورد ايان غولدن، أن المدن الكبرى كانت أكثر تضرراً في الجائحة، كما أن المدن التي تتوافر فيها خدمات صحية، فرص العمل عن بُعد كانت أقل تضرراً.
وربما يكون العمل والتعليم والتسويق من بُعد أحد مفاتيح التغيير الجوهري في المدن الكبرى، ففي قدرة الناس على الاستغناء عن الذهاب إلى مؤسسات العمل والأسواق والمدارس، مع فرصة حصولهم على خدماتها ومزاياها، لن يظل هناك حاجة للإقامة في المدن المكلفة والمزدحمة، وسوف يكون في مقدور الناس أن يعيشوا في ضواحي المدن، أو حتى بعيداً عنها، وتنشأ فرص جديدة للعمل والحياة بكلفة أقل وبعيداً عن التلوث والضجيج والزحام، بل يمكن أيضاً إنشاء مصادر جديدة وإضافية للعمل والدخل في الريف، مثل الزراعة والصناعات الغذائية. 
وبالطبع، فقد كان الزحام والتجمع في المباني ووسائل النقل والمواصلات أكثر مصادر الإصابة بالمرض انتشاراً وفتكاً بالناس، وإذا أضيف إلى ذلك الفقر وضعف المؤسسات الصحية، فإن الوباء يزيد خطورة، ففي مدينة مومباي الهندية، يتوقع أن يكون نصف سكانها (15 مليوناً) قد أصيبوا بالمرض، وفي جنوب أفريقيا، حيث يفتقر حوالي نصف السكان (50 مليون نسمة) إلى المرافق الأساسية، مثل الحمامات المنزلية وبرادات المياه، ترتفع الإصابات على نحو مخيف، برغم إجراءات الإغلاق الصارمة. 
تمكن 47 في المائة من خريجي الجامعات الأميركية من العمل عن بعد، في حين لم يتمكن أكثر من 4 في المائة، ممن ليس لديهم مؤهلات جامعية، من العمل عن بعد، وهكذا يجتمع الفقر مع المرض، مع ضعف المستوى التعليمي، ما يعني أيضاً، بالضرورة، ضعف الوعي بالمخاطر والصحة والسلامة، وتكريس أساليب في الحياة والتغذية والسلوك تزيد المرض انتشاراً، وفي دكا عاصمة بنغلاديش، يعتمد أكثر من 80 في المائة من العمال على القطاع غير الرسمي، وقد اختفت مصادر الدخل لأكثر من 60 في المائة من العمال، والشاهد في المثال أن المدن الكبرى لم تعد قادرة على توفير فرص العمل والحياة والإقامة والصحة لساكنيها، وبدأت تتحول إلى طاردة للسكان والاستثمارات، وللمفارقة، فإن من يغادر المدن إلى الريف والضواحي هم الأغنياء، أو القادرون على العمل من بعد، وتتحول المدن، بعكس حركة التاريخ، إلى مأوى للفقراء والعاطلين عن العمل والمشردين، لكنها مأوى لم يعد قادراً على الإيواء!
*كاتب وباحث أردني