أقامت فرنسا الجمهورية اللبنانية عام 1920  وظلت للفرنسيين علاقتهم الخاصة بلبنان ومسيحييه وقلة من مسلميه كانوا يُعتبرون عملاء، لكنهم صُدموا صدمة شديدةً في الأربعينيات، عندما ظهر تحالف إسلامي- مسيحي عام 1943 لإنهاء الانتداب الفرنسي على لبنان بمعاونة الإنجليز. وهذا الأمر ما حدث فجأة، بل على أثر تخلّي «الجبهة الوطنية السورية»، عن التعاون مع زعماء بيروت وطرابلس لتسهيل استقلال سوريا كما قالوا للبطريرك، وبعد استقلال البلدين يمكن الحديث عن نوع العلاقة بين الدولتين. 
وعلى أي حال، وبعدما جرت في النهر مياهٌ كثيرةٌ على مدى ستين عاماً، عاد الحرص الفرنسي على العلاقة الخاصة بلبنان، والتي حسبنا وقتها أنّ سببها العلاقة الوثيقة بين الرئيس شيراك والرئيس رفيق الحريري، وكان الرئيس شيراك هو الذي استغلّ فرصة سوء العلاقة بين بوش الابن والأسد الابن، فتعاون معه على إصدار القرار الدولي رقم 1559 (2004)، والذي يطلب خروج الجيش السوري من لبنان، وحلّ سائر الميليشيات. وكان ذلك القرار الذي أيده الرئيس الحريري سبب مقتله، كما أظهرت تعليلات حكم المحكمة الدولية في القضية في 18 أغسطس 2020، لأن القرار جمع بين إخراج الجيش السوري، ونزع سلاح ميليشيا «حزب الله». 
وما كان الرئيس ساركوزي ولا الرئيس هولاند من أصدقاء آل الحريري، لكنّ ساركوزي زار لبنان، والرئيس هولاند استزار الرئيس ميشال سليمان، وفي كل الأحوال ما انقطعت علاقة باريس بسائر الفرقاء السياسيين اللبنانيين، بما في ذلك «حزب الله» في سائر العهود. لكنّ الرئيس ماكرون عاد إلى سياسة شيراك بمجملها، فكما أقام شيراك باريس-1، وباريس-2، وباريس-3 لنجدة الاقتصاد اللبناني، أقام ماكرون عام 2018 «مؤتمر سيدر» للغرض نفسه، وكما عرقل السوريون وأنصارهم مؤتمرات باريس القديمة، فإنّ جبران باسيل صهر الرئيس وحليف سعد الحريري يومها عرقل إنفاذ مقررات «مؤتمر سيدر»، الذي كان سيجلب 11 مليار دولار للاقتصاد اللبناني!
كان انفجار أو تفجير مرفأ بيروت مناسبة لعودة الفرنسيين إلى لبنان في أَوج ضعف عون وباسيل، وقد كنا نظن أنّ الأميركيين يعارضون الدخول الفرنسي لبشاشة الفرنسيين مع «حزب الله» ومع عون الذي لا يحبونه، لكنّ بومبيو قال إنّ هناك تنسيقاً كاملاً مع فرنسا في لبنان في هذه الفترة! و«شنكر» وكيل وزارة الخارجية الأميركية، الذي وصل إلى لبنان يوم الأربعاء الماضي، قال: إنه يطالب المسؤولين بالإصلاحات التي طالب بها الرئيس الفرنسي، وهو إنما جاء من أجل بحث قضية ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، إن كان اللبنانيون ما يزالون يريدون ذلك، وتقول بعض الصحف الفرنسية: إنّ بين أسباب الاهتمام الفرنسي المُكْلف هو التحركات التركية في شرق المتوسط. 
لقد نفى الرئيس الفرنسي أنه هدَّد سائر المسؤولين بالعقوبات، إن لم يشكلوا الحكومة بسرعة، وينجزوا البرنامج الإصلاحي التفصيلي الذي طالب به خلال ثلاثة أشهر، وهو سيعود للمرة الثالثة لكي يرى ما تحقّق، فبعقوبات ومن دون عقوبات فرض الرجل نفسه وبرنامجه، والجميع أظهر السمع والطاعة بمن في ذلك «حزب الله» والرئيس «بري» وجبران باسيل، ما سرُّ قوة الرجل، فكونه رئيس فرنسا وحبيب المسيحيين وفيروز لا يكفي. بل الإصغاء سببه الانهيار الاقتصادي والمالي في البلاد، ودمار المرفأ وبيروت، والحاجة العاجلة لأكثر من ثلاثين مليار دولار، قال ماكرون: إنها لن تتوافر إلاّ بالإصلاحات، بحيث تظهر صدقية يمكن عندها مناداة صندوق النقد الدولي، والعودة إلى مقررات سيدر، وهذا فضلاً عن مؤتمر وعد بإقامته في أكتوبر للتضامن مع لبنان، في وقف الانهيار وإعادة الإعمار!
ماذا نسمي هذا كله؟ فالدول ليست مؤسسات خيرية، وفرنسا مأزومة اقتصادياً، وكذلك أوروبا، فهل الأمر لمنع انهيار لبنان وهجرة ملايين مثل سوريا، أم هي حقيقة أن فرنسا ما عاد لها موطئ قدم في المشرق إلا في لبنان؟ أم الأمران معاً؟ 

أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية