صباح اليوم أرسل لي ولدي رسالة قصيرة يثير فيها انتباهي إلى الخطر الذي يفسد سعادة المبدع في الحياة هو أن يكون في مهب ريح عواطفه. أي: أن يحزن بسرعة. وأن تتغير نفسيته من أي كلمة لا تعجبه. وأن يتعلق بأي إنسان. وأن يبالغ في كل موقف يتخذه. أن يكثر من الشكوى والضجر. وأن يهيم بكل ما يعجبه. لكن ليس هذا هو مفهومي عن السعادة. فكل إنسان يتحدث عن السعادة ويتمناها ويطلبها. لكن السعادة ليست شعوراً ثابتاً حين تمر بنا. إنها تمر خطفاً دون أن ننتبه. فقد نستشعرها بغتة لسبب قد يكون بسيطاً وعابراً في ميزان العقل، كأن يقع بصرنا على مشهد زهرة تفتحت في باكورة الصباح، أو لنسمة منعشة في الهجير، أو لذكرى جميلة عابرة. وقد نستشعرها من مذاق طعام لذيذ، أو صحبة حلوة لصديق أو ولد أو قريب. وهي لا تخضع للعقل إلا كباحث عنها، أو لأنها مطلب غريزي، مطلب إنساني نسعى له بأفعال قد لا تأتي بالسعادة التي نتصور أنها هي. وقد نشعر بها لحظة غامضة بوصفها إحساساً هادئاً ينسل إلى أعماقنا بيسر وعذوبة ويحتوي خلجاتنا كلها، يشملنا بالرضا والتسامح، بالرحابة والمحبة، وبالجمال الذي يغمرنا ويفيض على ما حولنا. لذلك فإن السعادة لا تشبه الانفعال الصاخب الذي يولده الفرح أو الابتهاج الشديد. ومع ذلك فالسعادة لا تُقيمُ، ولا نملك إبقاءها، لأنها عصية على بساطتها، وممكنة رغم تمنعها. وكمثال: عندما يزورني أولادي بعد غياب ونسيان أشعر بسعادة لا يمكنني القبض على وصفها. فبحضورهم يتدفق هرمون السعادة (السيروتونين) كما يعرّف علمياً. وعندما يغادرون ينسحب الهرمون ويعود القلق والاكتئاب ينهش أيامي.
والسعادة تنهض في نفوسنا أيضاً حين نهدأ ونستغرق في تأمل الكون والوجود والطبيعة والكائنات وأسرار الحياة، ونوغل عميقاً في البحث عن أسباب الفناء الذي استبد بالكائنات والبشر. والسعادة هي أيضاً حين تشف نفس الإنسان وترقى على الشرور والمهالك. وتنتصر لفعل الخير والجمال والتطور، أما ما هو ضد السعادة فهو الشر والتخلف والفتك الذي طوح بالحضارات البشرية. لذا فعلى الإنسان الذي يتوق للسعادة أن يرفض كل ما هو ضدها، بقوة الفكر والمعرفة والعلوم لاكتشاف قوانين النشوء والتطور، في كل ما يحيط به ظاهراً وباطناً. فالشعور بالسعادة ينبثق من فعل الاختيار بينها وبين ما هو ضدها. فعلى الإنسان كي يصل إلى قدرة الأخيار، أن يوظف عقله وتفكيره في التأمل والتجريب والابتكار والإبداع. ويرفض العنف، والحروب، بكل أسبابها وغاياتها!.