إذا ما توسط النص بين الذات والموضوع ظهرت ضرورة تأويل النص الذي يقوم بدور المرآة المزدوجة، يعكس رغبات الذات اللانهائية وتصوراتها الذهنية. كما يعكس واقع العالم ومحدداته وإمكانياته الفعلية. يقوم التأويل بتحقيق التوافق بين الذهن والنص حتى يصبح النص مفهوماً ومصدراً للمعرفة، وبين النص والواقع حتى يصبح الواقع تحت السيطرة كميدان للفعل. وبلغة القدماء يحقق التأويل هذه الهوية بين العقل والنص وهذا التماهي بين النص والواقع حتى تتحقق وحدة المعرفة والسلوك وإلا وقع التعارض بين العقل والنقل أو بين النقل والمصلحة. فالعقل والوحي والطبيعة نسق واحد يكتشفه التأويل. 

ويقوم التأويل على التعددية في الفهم، والاشتباه في الواقع، والتشابه في اللغة. فلا يوجد معنى واحد للنص، ولا فهم واحد للدلالة، ولا يرجع ذلك إلى أبعاد في اللغة أو إلى مستويات في الواقع بل إلى أعماق الشعور ومستويات المعرفة. لذلك تم التمييز في كل حضارة بين طبقتين معرفتين، العامة والخاصة. الأولى تدرك الظاهر بينما تغوص الثانية في بواطن الأمور. وقد تكون القسمة ثلاثية لثلاث طبقات معرفية: العامة وخاصة العامة والخاصة. العامة وهم الناس أو الجمهور. وخاصة العامة هم المثقفون، أصحاب المواقف والرؤى المتعددة. والخاصة وهم أهل المعرفة الباطنية. الأولى لا تأويل لهم. والثانية تأويلهم ظاهري، في حين أن الثالثة أصحاب التأويل الباطني. وأحيانا تكون القسمة رباعية عن طريق تضعيف القسمة الثنائية، العامة، وخاصة العامة، والخاصة، وخاصة الخاصة. ويمكن تضعيف القسمة أكثر من ذلك طبقاً لمستويات التعليم عند الناس.

وقد يكون هذا هو معنى الحديث المشهور «أنزل القرآن على سبعة أحرف». لا تعني الأحرف هنا اللهجات أو القراءات أي الصوتيات. فالقرآن ليس فقط صوتا بل معنى. والمعنى في النفس. إنما تعني سبعة مستويات في الفهم طبقاً لمستويات التعليم والثقافة أي طبقاً للطبقات المعرفية للبشر. وقد تكون سبعة، عامة العامة، العامة، خاصة العامة، عامة الخاصة، الخاصة، خاصة الخاصة. عامة العامة هم الدهماء، والعامة هي التي تتمتع بثقافة شعبية تقوم مقام المعرفة النظرية. وخاصة العامة هم الذين لديهم الوعي العامي وبداهة الفطرة. وعامة الخاصة هم حملة العلم وناقلوه دون وعي به. والخاصة هم أهل العلم، وخاصة الخاصة هم الراسخون في العلم. ومازالت السابعة قيد البحث والنظر.
لذلك تناولت عديد من العلوم الإنسانية ظاهرة التأويل. أولها الفلسفة بطبيعة الحال كتطور طبيعي لنظرية المعرفة بعد رد الاعتبار للنص الذي أصبح موضع نقد خاصة النصوص المقدسة بعد نشأة النقد التاريخي. وكانت نظرية المعرفة التقليدية الحسية أو العقلية قد جعلت الذات مباشرة في مواجهة الموضوع دون عنصر وسيط وهو النص، وبعد إزاحة سلطة النص لصالح سلطة العقل.

وتناولها علم النفس بكل فروعه، علم التحليل النفسي في تفسير الأحلام، وعلم النفس الوصفي لوصف الظاهرة الشعورية، والفينومينولوجيا باعتبارها تطويرا له، والاستبطان، وقلب النظرة، والتحول من الخارج إلى الداخل، ومن الزمان إلى المكان، ومن التعالي إلى المحايثة.

وتعرضت لها العلوم الاجتماعية. فالنص كاشف لقوى المجتمع والصراع الاجتماعي. ليس النص نظرية مجردة بل لحظة تجسيد لصراع اجتماعي. فمعارك التفسير هي في أصلها معارك اجتماعية. المجتمع شفرة، والتأويل فك لها.
كما تناولها علم المنطق خاصة منطق اللغة. فالتأويل هو منطق اللغة، للتعبير والإيصال. ومهما حاول المنطق الرمزي تجاوز اللغة إلى شفرات من أجل القضاء على الاشتباه فإنه يعود إلى تعريف الشفرة، والبحث عن أسس الرياضيات المغروزة في النفس كما تقول المدرسة النفسية.
وللتأويل وظيفة عملية أخرى وهي التنفيذ والتحقيق والممارسة. فالتأويل النظري ليس هدفا في حد ذاته ولكن يعطي معيار السلوك العملي. وهذا هو معنى اللفظ الأجنبي الحديث ‏Interpret ‬أي ‬يعزف ‬كالموسيقى. ‬فالعزف ‬تأويل ‬للنوتة ‬الموسيقية، ‬وإخراجها ‬من ‬العلامة ‬المدونة ‬إلى ‬الصوت ‬الجميل ‬بإحساس ‬العازف ‬وقدرته ‬على ‬فهم ‬أصل ‬اللحن ‬قبل ‬تدوين ‬المؤلف ‬له.