هل هناك أشدّ ارتياباً من ملايين الناس حول العالم، يبتعد أحدهم عن الآخر مسافة مترين في الأماكن العامة، وفي المطاعم والمسارح، وفي وسائل النقل، بما فيها الطائرات، ويرتدون كمامات بأمر السلطات، التي تحاسب قانونياً من لا يرتديها. ولم يعد الارتياب مرضاً بل عين العقل، يمتثل له حتى زعماء الدول الذين يتصافحون بالكوع بكل جدية! 
وفي هذا الهزيع من ليل الجائحة لم تتحقق بعد توقعات «منظمة الصحة العالمية» في مايو الماضي حول إعصار تسونامي عقلي يهب على العالم، وما يحدث الآن أمواج هائجة، حتى في بلدان كالولايات المتحدة، التي سجلت الرقم القياسي العالمي في عدد الإصابات بالفيروس، وتجاوزت ستة ملايين الأسبوع الماضي، والوفيات ما يقرب من مائتي ألف، فيما يصطرع السكان بين بعضهم، والسلطات حول ارتداء الكمامات. 
ولا يمكن تصور ما سيحدث في حال تكرار وباء إنفلونزا العالمي عام 1918 الذي فتك بأكثر من خمسين مليون نسمة، نحو ثلاثة أرباع المليون منهم في الولايات المتحدة. ويُحذِّر الاختصاصيون من التهاون في مواجهة الخطر، «الذي يصعب تحديد السبب المحدد للوفيات به، رغم كل ما نملك من وسائل تشخيص دقيقة»، حسب عالم الطوارئ الأميركي «فاوست» في بوسطن. وتذكر الكاتبة الأميركية «كيت مورفي» مؤلفة كتاب «أنت لا تسمع: ما الذي يفوتك، ولماذا هو يهمك»، أن «الجميع الآن خرقى، وإذا حُرم الناس من التفاعل مع نظرائهم فستضمحل مهاراتهم الاجتماعية، وهذه آثار جانبية للجائحة». 
وفي عصر الكمامات، يعمى الناس عن التعرف على الوجوه. ويعجز حتى الخبراء في قراءة الوجوه. ودلت الدراسات على السجناء، ومستكشفي القطب المتجمد، ورواد الفضاء على أن قضاء فترة طويلة في عزلة يضعف القدرات الاجتماعية، وبسببه يعاني الأشخاص الانطواء على الذات، بسبب عدم اللقاء بالآخرين. ويذكر علماء النفس أن مثل هذا يحدث الآن للناس بسبب الجائحة، سواء أدركوا ذلك أم لا. فالناس يسيئون فهم بعضهم بعضاً، ومع حاجتهم إلى لقاء الآخرين، تنشأ عن اللقاء مشاكل سوء فهم، وشكوك مرضية، ومواقف كوميدية مأساوية. ويعتقد الخبراء أن سكان مصر وبلدان الخليج المعتادين على لبس الحجاب والكمامات يحسنون أكثر من غيرهم قراءة الوجوه. 
ولا ارتياب في حجم ارتياب الدول بعضها بعضاً، وبلغ ارتياب واشنطن من بكين حدّ اتهامها بمسؤولية نشر الوباء. وإذا صَحّ ذلك أو لم يصحُّ كان الله في عون سكان القرن الحادي والعشرين، العاجز أو المتقاعس عن جمع صفوف قوتيه العظميين، المطورتين للقاح ضد الفيروس، في مواجهة كارثة عظمى تهدد الدولتين والعالم. «الفيروس يقسمنا ويجمع بيننا» عنوان مقال الكاتبة الأفريقية الأميركية «لاوريتا تشارلون» في «نيويورك تايمز»، وفيه تذكر أن معظم الصينيين يرتدون الكمامات، وتعتبر «عدم ارتدائها دليل على قلة الحساسية الثقافية». 
والارتياب دليل على عقل الإنسان. و«تحديد الصراعات العقلية بأقل ما يمكن لا ينطبق على واقع الإنسان العقلي، والمستمد من طبيعته، التي تجعل منه عرضة لانطباعات وتجارب مختلفة، وتتطلب منه إقامة التوازن بينها واختيار ما يجده متلائماً مع حاجاته الآنية ومع ضرورة بقائه». يذكر ذلك عالم وطبيب النفس الفلسطيني علي كمال في كتابه «النفس انفعالاتها وأمراضها وعلاجها»، ويشير فيه إلى أن «الفرد السليم نفسياً هو في حالة مستمرة من قيام عوامل الصراع وإيجاد الحلول، ومقدرة الإنسان على التحسس بهذه الصراعات، هو الذي يفرق تفريقاً جوهرياً بين الإنسان وغيره من الكائنات الحية». ويفتتح علي كمال كتابه الموسوعي بعبارة مأثورة لعالم الرياضيات والفيزياء والفيلسوف الفرنسي «بليز باسكال» كأنه يخاطب البشر الحاليين عبر نحو خمسة قرون. «أي غول هو الإنسان، وأي طرافة، وأي مخلوق وحشي، وأي فوضوي، وأي تناقض، وأي فلتة، حكم في كل شيء! دودة الأرض الضعيفة ومستودع الحقيقة، وبالوعة الشك والخطأ، مجد الكون وعاره». 
*مستشار في العلوم والتكنولوجيا