في عام 2016 حددت الأمم المتحدة لنفسها 169 هدفاً لتحقيقها حتى عام 2020، وذلك من أجل تثبيت ركائز السلام العالمي. منذ ذلك الوقت جرت الرياح بما لا تشتهي سفن المنظمة الدولية ومشروعها الطموح. وكان وباء كورونا الذي تفشى في العالم كله طولاً وعرضاً، آخر اللكمات الموجعة التي تلقاها هذا المشروع، حتى أنها كادت تُجهز عليه.
في الأساس، انطلق المشروع من إعلان الواحد والعشرين من شهر سبتمبر من عام 1981، يوماً للسلام العالمي. ولكن السلام ليس شعاراً فقط، ولكنه سياسة عملية تشمل العلاقات بين الدول، والعلاقات بين الشعوب، وحتى العلاقات داخل الشعب الواحد (المتعدد الأديان والإثنيات).
ففي الدراسات الإحصائية للأمم المتحدة، إن عدد ضحايا الحرب العالمية الأولى بلغ 16 مليون إنسان ، وإن عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية ارتفع إلى 55 مليون إنسان. وبعد الحربين المدمرتين الأولى والثانية كان يسقط سنوياً 180 ألف إنسان قتيلاً في العام الواحد طوال العقود الأربعة للحرب الباردة (1945-1998). وحتى بعد انتهاء الحرب الباردة سجلت الأمم المتحدة سقوط 55 ألف قتيل سنوياً خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. فالقتل مستمر ولو أن حجمه تراجع.
وتعود أسباب التراجع في عدد الضحايا ليس إلى مشاعر الرحمة والإنسانية، بل تعود إلى أن الدول المتصارعة لم تعد ترسل جيوشها إلى المعارك الحربية. ربما كانت الحرب الروسية في جورجيا عام 2008 آخر تلك الحروب. فالحرب الروسية في أوكرانيا لم تعرف تحركات عسكرية، وقد احتلت (أو استرجعت) روسيا شبه جزيرة القرم من دون إرسال قوات عسكرية. ثم أكدت على سيادتها عليها من خلال استفتاء شعبي عام عملت على إجرائه.
صحيح أن الدول لم تعد –حتى الآن على الأقل- تتقاتل بجيوشها، ولكن الصحيح أيضاً أن ذلك لا يعني أن علاقاتها أصبحت على أحسن ما يرام. لقد تغيرت طبيعة الصراعات واتخذت طابع العنصرية الدينية التي تتولاها بصورة مباشرة حركات متطرفة وإرهابية تلقى دعماً من هنا وتشجيعاً من هناك. كما تحوّلت الحروب بين الدول إلى حروب أهلية داخلية على النحو الذي عرفته سوريا، وليبيا وحتى العراق، حيث حصدت تلك الحروب عشرات –بل مئات- الآلاف من الضحايا.
تقول أرقام الأمم المتحدة إن سوريا وحدها مُنيت بسقوط 250 ألف ضحية منذ عام 2011 حتى عام 2016، وإن الرقم ارتفع كثيراً منذ ذلك الوقت وطوال السنوات الأربع الأخيرة، وإن جنوب السودان مني بخسارة 50 ألف ضحية منذ عام 2013 بعد الانفصال عن الشمال وانفجار الصراع القبلي على السلطة. وتستند هذه الأرقام إلى إحصاءات جرت في عام 2016، مما يعني أن العدد ارتفع كثيراً أيضاً منذ ذلك الوقت، لأن الحرب لم تتوقف حتى اليوم. أما عن ضحايا العراق (داعش) وضحايا نيجيريا (بوكوحرام). وأما عن ضحايا الساحل الأفريقي (القاعدة) فحدّث ولا حرج. ويشمل الحديث بلا حرج أيضاً مسارح القتال في الفلبين، وفي ميانمار وتايلاند والحرب في أفغانستان المستمرة منذ عام 2003. والتي تصنف على أنها الحرب الأميركية الأطول في التاريخ.
لا يعني ذلك أن الحرب بين الدول قد طويت صفحتها. فالوقائع تشير إلى أنها تجري في جبهات جديدة، اقتصادية وعلمية في الدرجة الأولى، وهو ما تتميز به العلاقات بين الصين والولايات المتحدة من جهة، وبين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي من جهة ثانية. وقد جاء وباء كورونا ليلقي أضواء ساطعة على هذه الجبهات، حتى أن فيروس الوباء بات يصنف على أنه نتاج هذا الصراع، ولعله أحد أسلحته التي انفلتت عن السيطرة !
من هنا فإن بابا الفاتيكان فرنسيس عندما دعا إلى وقف سباق التسلح، وإلى إنفاق موازنات الحرب على مساعدة فقراء العالم، كان يترجم في ذلك مضمون وروح وثيقة الأخوة الإنسانية التي صدرت عنه وعن إمام الأزهر الشريف الدكتور الشيخ أحمد الطيب في العاصمة الإماراتية أبوظبي.
فالإنسانية دفعت ثمن الحروب غالياً جداً منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها.. وحتى اليوم. ولكنها لم تذق طعم السلام إلا من خلال البيانات، ومنها بيان الأمم المتحدة بإعلان 21 سبتمبر يوماً رمزياً للسلام العالمي. ولكن حتى هذا الرمز لم يعرف السلام بعد.
*كاتب لبناني