تقليد البعض ومحاكاتهم، من غير أن ينظر المقلدون نظرة عقلية مجردة، قد تغلق باب الاجتهاد.. وإن نزعة التقليد متغلغلة في نفوس الناس، توجههم وهم لا يشعرون، وإن سلطان الأفكار التي اكتسبت قداسة بمرور الأيام يسيطر على القلوب، فيدفع العقول إلى وضع براهين لبيان حسنها وقبح غيرها. ومن الطبيعي أن يدفع ذلك إلى الاختلاف والمجادلة غير المنتجة؛ لأن كل شخص يناقش، وهو مصفد بقيود الأسلاف من حيث لا يشعر، وهذا هو دأب الجماعات المتطرفة وكل الجماعات السياسية الدينية المسلحة‏‭!‬ ‬ينشأ ‬عن ‬التقليد ‬التعصب، ‬و‬قدسية ‬الآراء ‬التي ‬يقلدها ‬الشخص ‬تدفعه ‬إلى ‬التعصب ‬لها. ‬وحيث ‬كان ‬التعصب ‬الشديد، ‬كان ‬الاختلاف ‬الشديد. ‬وحيث ‬كان ‬الاختلاف ‬الشديد، ‬كان ‬الاختلاف ‬المقيت ‬الذي ‬يغلق ‬أبواب ‬الحوار ‬ونوافذه، ‬ويضعه ‬في ‬بروج ‬مشيدة. ‬فبعض ‬العلوم، ‬كما ‬هو ‬شأن ‬العلوم ‬الإسلامية، ‬دلفت ‬نحو ‬قُطب ‬التقليد، ‬حينَ ‬مُورست ‬على ‬الإنسان ‬المسلم ‬مجموعة ‬من ‬الضغوط ‬والتقليصات ‬المعنوية ‬والمادية. ‬فحين ‬استُبدل ‬واقع «‬قل ‬يا ‬ابن ‬أخي ‬ولا ‬تحقر ‬نفسك» (‬الذي ‬كان ‬يُمارس ‬في ‬الصدر ‬الأول، ‬حين ‬قال ‬عمر ‬بن ‬الخطاب ‬هذه ‬الجملة ‬الرائعة ‬لعبد ‬الله ‬بن ‬عباس ‬وكان ‬فتى ‬ساعتئذ)‬، ‬بواقع ‬مختلف، ‬واقع «‬صه! ‬واخرس ‬قاتلك ‬الله!»‬، ‬بدأنا ‬نرى ‬بعض ‬العلماء ‬يتبوّؤون ‬مقامات ‬فيها ‬من ‬الإطلاق ‬والكليانية، ‬ودعوى ‬امتلاك ‬الحقائق، ‬ما ‬قلص ‬من ‬الهوامش ‬النقدية. 
كما أن هناك إشكالاً نجده منساباً في كل فصول تاريخنا العلمي والمعرفي، وهو المتعلق بقضية الثابت والمتحول، فحين لم نستثمر الجهد المطلوب واللازم في هذه القضية، وتركناها منتثرة في كتب النابغين من علماء الأمة دون جمع، وحين لم تُتَلَقّ الإشارات الكثيرة الموجودة في القرآن والسنة إلى هذه القضية فبقيت غير بينة المعالم؛ حصلت مشاكل كثيرة.. 
ومن المعلوم أيضاً، كما يكتب العلامة المغربي محمد الكتاني، أنّ مسألة الثبات والتغيّر مشكلة فلسفية قديمة. فقد كان فلاسفة اليونان يقسّمون ظواهر الكون والقوانين المحرّكة له إلى جواهر وأعراض. فالجواهر ثابتة، والأعراض متغيّرة. والمادّة، أو الطبيعة المتغيّرة، ليست سوى أعراض للجواهر الثابتة. وفي هذا الصدد، قال أرسطو بقانون الهوية. وأنّ الهوية ثابتة لا تتغيّر، لأنّه من دون قولنا بثباتها، فإنّه يستحيل العلم بأيّ شيء. لأنّ العلم لا يتعلّق إلا بما هو ثابت. ثمّ جاءت الثورة الفلسفية والعلمية في تاريخ أوروبا الحديث فقالت بمبدأ مخالف، هو مبدأ التطوّر الذي يتحكّم في ظواهر الكون. وأنّه بفضل هذا المبدأ وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم من تقدّم، بل أصبح التطوّر يفسّر كلّ ظواهر الحياة البيولوجية، بما فيها حياة الإنسان. فالتطوّر أحد مبادئ الثقافة الغربية التي تتعارض مع ثقافاتنا، التي تؤمن بثبات الجواهر والقيم، ولعلّ ذلك أن يكون سبباً في الجمود الذي عرفه الفكر الإسلاميّ والعربي، حينما اكتفى بالتقليد، واجترار التراث، بل وفي إغلاق باب الاجتهاد، والتنكّر لمتغيّرات المجتمع. فجمد الفقه الإسلاميّ منذ القرن الرابع الهجريّ. وبرغم وجود دعوات للاجتهاد وتطوير التشريع، فإنّ هذه الدعوات لم تجد الأذن الصاغية. لكن عندما انخرطنا في التاريخ المعاصر، وهو تاريخ متغيّر باستمرار، لم يكن أمام ثقافتنا بدٌّ من الانفتاح على مفاهيم التطوّر، الذي أصبح يَطال كلّ شيء في حياتنا، ولم يكن بدٌّ من الإيمان بأنّ التطوّر سنّة الحياة. لكنّ البعض منّا لا يزال يدير ظهره لهذه الحقيقة، ويصرّ على أنّ استرجاع تاريخ السلف ومفاهيمهم في الدين هو السبيل الوحيد لفهم الإسلام. وهنا تُثار أيضاً مسألة الهوية الوطنية وثباتها.
أجل، إذا نظرنا في الثوابت التي تقوم عليها هذه الهوية، فسنجد أنّ بعضها قد يتغيّر في تصوّرات بعض السياسيين والمفكّرين. ولذلك نتساءل: هل نحن متفقون على هذه الثوابت؟ وإذا كانت هذه الثوابت موجودة، فهل نحن متفقون على تحديدها وتأويلها؟ أوَ ليس الاختلاف السياسي راجعاً في بعض مناحيه إلى الاختلاف في فهم هذه الثوابت؟ وإذا كانت كذلك، فأين يكمن الثبات؟ وبالتالي، فإنّنا غير متفقين في تحديد مضمون الثوابت، فما بالكم في تحديد المتغيّرات، بل إنّ منّا من يجعل من بعض الثوابت متغيّرات، ومن بعض المتغيّرات ثوابت. وبذلك يتّسع الاختلاف داخل ثنائية الثوابت والمتغيّرات إلى حدّ بعيد.
*أكاديمي مغربي