الأول من سبتمبر يبدو مفصلياً في تحديد وجهة لبنان، إذ تحلّ الذكرى المئوية لإعلان «لبنان الكبير» الذي أوجده كدولة وكيان فيما هو يعيش أعتى أزمة سياسية واقتصادية، بل أزمة وجودية، إلى حدّ أن العديد من المؤرّخين والكتاب وضعوا علامات استفهام على مصيره، وقد لخّصها وزير الخارجية الفرنسي أخيراً بقوله «الخطر اليوم هو اختفاء لبنان». كان الحدث التاريخي عام 1920 أعاد إلى البلد مناطق سُلخت من جغرافيته في عهد الدولة العثمانية، ولم يكن لهذا الاستحقاق أن يُنجز لولا نشاط بطريرك الموارنة بطرس الحويّك ومساعدة فرنسا، دولة الانتداب آنذاك. لذلك يشارك رئيسها إيمانويل ماكرون في إحياء بالذكرى، لكن من دون أي مظاهر احتفالية، فلبنان لم يستفق بعد من الصدمة والحداد اللذين أعقبا كارثة بيروت.
يُنظر أيضاً إلى الانفجار الهائل في المرفأ (4 أغسطس) باعتباره مفصلياً أيضاً، خصوصاً أنه اجتاح منطقة بيروتية يعود معظم عمرانها العريق إلى ما قبل حقبة «لبنان الكبير» وما بعدها مباشرة، لتكتمل بذلك الدلالات الرمزية بين التاريخ والحاضر. كانت نشأة لبنان - الدولة والكيان ودستوره الأول - هي التي صنعت نظامه الحرّ المنفتح، ثم اقترن استقلاله (1943) بـ «الميثاق الوطني» الذي اجترح صيغة فريدة تعترف بالتعددية وتطمح إلى تنظيم التعايش بين الطوائف. 
استطاعت هذه «الصيغة» أن تصمد رغم ما تداخلها من صراعات انطلقت دائماً من ارتباط الفئات المحلية بقوى خارجية، عربية أو دولية، وأدّت إلى مواجهات طائفية في أزمة 1958 انتهت بتدخل عسكري أميركي، ثم في حرب 1975 ولعلها لما تنتهِ بعد إذ تخللها تدخل عسكري سوري (1976 - 2005) واجتياح إسرائيلي فاحتلال للجنوب (1982 - 2000) وتدخّل إيراني بدأ في 1982 واستمرّ إلى اليوم متنكّراً بوجود «حزب الله» ودوره المتمدد إلى سوريا ودول عربية أخرى.
خلال هذه السنة اللبنانية السوداء (الانهيار الاقتصادي + وباء كورونا + كارثة انفجار المرفأ + انكشاف الدولة الفاشلة) كثرت المقارنات بين الماضي والحاضر، بين نهاية العهد العثماني بالمجاعة الكبرى ومرحلة «نظام حزب الله» التي أعادت لبنان إلى ذلك العهد وفصلته عن أصول نشأته وعن حواضنه العربية وصداقاته الدولية. ما كان لهذا «النظام» أن يحقق هيمنته لولا اغتياله رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، ثم تحالفه الطائفي المشؤوم مع حزب رئيس الجمهورية. رتّب هذان الحدثان على لبنان تكلفة باهظة من أمنه واستقراره، بل دفعاه على حافة الانهيار الشامل، فهل هناك أسوأ من أن يقرّ المجتمع الدولي بالقول والفعل بأنه لا يثق بدولة يسيطر عليها «حزب الله» ولا يعتزم مساعدتها ما لم تقم بإصلاحات جذرية.
رغم مأسوية الوضع اللبناني وخطورته لم يبدِ ذلك «الحزب» أي تعديل لأهدافه، ساعياً إلى السيطرة على كل الطوائف واعتبار «نظامه» تأسيساً لعهد جديد في تاريخ البلد. من هنا اصطدامه بدعوة بطريرك الموارنة الحالي بشارة الراعي إلى إحياء «حياد لبنان» كخيار وطني ووسيلة وحيدة للحؤول دون «أن تتسلّط طائفة على الآخرين بقوّة السلاح وتضع يدها على الدولة وتهدد جيرانها». وإذا لم يتمّ التوافق على «الحياد» أو «التحييد» فإن لبنان سيبقى «دولة فاشلة» مطروح مصيرها في بازار متغيّرات الشرق الأوسط.