اشتهرت في القرن العشرين عدة كتب تتحدث عن اليقظة الإسلامية بأحد ثلاثة معان: فترات النهوض والازدهار في الأزمنة الكلاسيكية مثل القرن الرابع الهجري والتجربة الأندلسية- أو اتجاهات الإصلاح والنهوض منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين- أو الانتظارات والتوقعات لمستقبل الإسلام وشروط أو مقتضيات ذلك المستقبل الآخَر. 
وكتاب الأستاذ محمد أركون، الذي أتحدث عنه هنا، يدور بين المعنيين الثاني والثالث لليقظة أو النهضة، وهو عبارة عن خمس دراسات صدرت في حياته (توفي أركون عام 2010) في مواطن مختلفة، وأطولها مقالة أعطاها مترجم البحوث هاشم صالح عنوان: حين يستيقظ الإسلام ( دار الساقي، 2019)، وجعلها عنواناً عاماً للكتاب، والمقالة الطويلة في الأصل ذيَّل بها الأستاذ أطروحة تلميذه التونسي الباحث البارز محمد الحداد عن الإصلاح الإسلامي (نموذج محمد عبده).
الأستاذ أركون شديد الثناء على عمل محمد الحداد، لكنه لا يوافقه على أنّ محمد عبده على أهمية نزعته التنويرية، غيَّر «الأبستيم» أو الباراديغم ( حسب تعبير أهل القطيعة الفرنسيين أو رؤية العالم حسب الفلاسفة الألمان)، فالحداثة الفرنسية التي عرفها محمد عبده ما دخلت بملئها وتداعياتها في وعي المعروفين بالنهضويين بل وصلت متقطعة، وتآثرت في وعيهم وكتاباتهم بالتقليد، ثم جاء «الصحويون» وأهل الهوية من المتطرفين، فقضوا على تلك البدايات الواعدة، والواقع أن الدكتور الحدّاد في دراساته عن محمد عبده، وإن انطلق من مسألة «الباراديغم»، ما ادّعى أنّ محمد عبده دعا أو حقّق قطيعةً مع التقليد الذي يكرهه الأستاذ أركون كرهاً شديداً، الأستاذ أركون رأى دائماً أنّ النزوع الإصلاحي الذي يسميه انتقائيةً وتلفيقاً، والذي انتشر في مصر والمغرب والشام منذ القرن التاسع عشر، لم يؤسِّس لزمنٍ فكريٍّ حداثي جديد، ولذلك سهُلَ على «الصحويين» متشددين ومسيِّسين للإسلام أن يتنكروا له، وأن يصطنعوا إسلاماً جديداً سياسياً وأُصولياً، تنكَّر للحداثة وللغرب وفكر العالم، وتردَّى في العنف، في حين أصرَّت المؤسسات الدينية على ما تبقى من التقليد، ومزجته بالإصلاحية التي فات أوانُها، وقد كان ذلك كافياً في وعي هؤلاء للتلاؤم مع العصر، بينما يرى الأستاذ أركون أنّ الذي يحتاج إليه الإسلام هو التغيير الراديكالي القاطع مع التقليد، ومع نزعات التسيُّس والجهاديات في الوقت نفسه. 
إنّ الذي أراه أنّ جيل محمد عبده، وجيل تلامذته، ما كانت تنقُص كثيراً منهم المعرفة بالحداثة، بل كانوا يختلفون مع معاصريهم من الراديكاليين في المقتضيات والضرورات، ثم إنهم ما كانوا جميعاً مفكرين نظريين، بل كان كثيرون منهم فقهاء جمهور، ولذلك سلكوا مسلك ما يحتمله الناس وما لا يحتملونه، وقد وجدتُ أنّ المؤرخ الكبير «أريك هوبسباوم» يرى في المسار الفكري للمجددين في كل العالم نوعاً من «اختراع التقاليد»، وهو تعبير متناقض في الظاهر، لكنه ليس كذلك في الواقع. 
لقد عرف الأستاذ أركون في عمله الكتابي الطويل مؤرخاً للفكر الإسلامي عدة ثوراتٍ فكرية في الغرب في سائر العلوم النصية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية والأخلاقية والثقافية، ومن عجبٍ أنه ظلَّ مصراً على ضرورات القطيعة للدخول في عالم العصر وعصر العالم، وهذا في الوقت الذي عاد فيه كبار مفكري العصر وفلاسفته الجدد إلى قراءاتٍ أكثر تمعناً وعمقاً بشأن حضور الدين القوي والمستمر، ومن دون انقطاعٍ ولا قطيعة في منظومات القيم والحداثة العلمانية الأكثر راديكالية، وليس صحيحاً أن المعتزلة قضى عليهم السُنيون التقليديون والجامدون، بل إنّ معظم مقولاتهم ونزعاتهم بقيت حاضرةً بقوةٍ في منظومات خصومهم.
قبل سنوات دار جدالٌ بين الدكتور هاشم صالح والسيد ولد أباه، بشأن الغموض أو الوضوح والتحدد في فكر الأستاذ أركون، فاعتبر صالح أنّ أعمال أركون شديدة التعقيد والمستقبلية، ولا يمكن أن تُفهم الآن! وأنا مع الأستاذ ولد أباه في وضوح وراديكالية أعمال الأستاذ أركون، وإن كان هناك تفاوتٌ في الثورية العالمة بين عملٍ وآخر.
*أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية