في خلفية قريبة يقف النفط وراء المظاهرات التي اندلعت قبل أيام في العاصمة الليبية طرابلس وبعض مدنها الأخرى، فالذين خرجوا غاضبين حركتهم دوافع اقتصادية بالأساس، وما كان لها أن تولد إلا في ظل ندرة جعلت يد «حكومة الوفاق» مغلولة عن تلبية احتياجات الناس، التي تتفاقم بينما تتراجع قدرة فايز السراج على تلبيتها.
فالليبيون عاشوا سنوات طويلة أعطوا فيها ظهورهم للسياسة في ظل حكم القذافي منشغلين بتدبير معيشتهم، ومعولين في هذا كثيراً على الدولة، التي كانت تدير قطاع النفط، مصدر الثروة الرئيس في البلاد، وتوزع جزءاً من حصيلته على الناس في شكل رواتب وخدمات وإعانات وهبات، لاعبة دور «الدولة الريعية» كما تقوم في الواقع، وكما تناولتها أقلام الاقتصاديين في مشارق الأرض ومغاربها، خاصة أن ليبيا لم تعمل كثيرا على توظيف النفط في إنشاء وتشغيل وتعزيز قطاعات اقتصادية أخرى، كما فعلت بعض الدول النفطية، إنما استعملته في بناء علاقة «اتكال» أو «تبعية» من المجتمع للسلطة السياسية، وكان القذافي يستمرئ هذه العلاقة، ولم يعمل على تغييرها في ظل حرصه على إحكام القبضة على الشعب.
جاءت ثورة فبراير 2011 لتخدش هذه العلاقة أو تفتح باب تفكير فيها، وتطالب بتغييرها، لكن دخول البلاد في اضطرابات شديدة لم يسمح بالتقدم على هذا المسار، فظلت الأغلبية الكاسحة من الناس متمسكين بما كان قائماً بينهم والسلطة، وكلما ساءت الأوضاع، انفجر حنين إلى المعادلة القديمة «الدفع مقابل الصمت»، لكن السلطة الحالية في طرابلس لم تعد قادرة على تحقيق هذا، فالنفط ليس تحت يدها، والحرب تستنزف جزءا كبيرا مما معها، بل هي مطالبة بالإنفاق على التنظيمات المتطرفة التي نقلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى الساحة الليبية، وعليها في الوقت ذاته أن تسدد فاتورة التسليح والتخطيط والحماية لأنقرة.
عاد النفط إذن ليكون محور صراع لفظي، بينما تقف قوات الطرفين المتحاربين على هلاله الثري في سرت، فحكومة فايز السراج ردت سريعاً على المظاهرات بتحميل قوات خليفة حفتر مسؤولية حرمان الشعب الليبي من ثروته، بمنع تصدير النفط ودفع حصيلة بيعه إلى شرايين اقتصاد البلاد، فأتى الرد سريعاً: «الجيش الوطني الليبي يحافظ على ثروات الشعب، التي يريد السراج أن يتركها نهبا للميليشيات الإرهابية والأتراك». 
قبل اندلاع المظاهرات الأخيرة بيومين فقط فوجئ العالم ببيانين متتابعين من السراج ورئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح يتحدثان فيه عن وقف إطلاق النار واستئناف التفاوض، والترتيب لانتخابات تشريعية ورئاسية، وكل هذا كان يدور في جوهره حول مسألة النفط، لأن الاتفاق تحدث صراحة عن «منطقة منزوعة السلاح في سرت»، وهذا يعني في حقيقته انسحاب الجيش إلى الخلف في اتجاه بني غازي. 
فور هذا الإعلان انهمرت تصريحات وأحاديث وتعليقات وتحليلات غاضبة من معارضين للسراح وموالين لحفتر تحذر من الوقوع في هذا «الفخ»، لأنه ما إن يتراجع الجيش حتى تتقدم التنظيمات المتحالفة مع السراج، لتسيطر على النفط، وأن حديث البيان عن وضع حصيلة بيع النفط في صندوق خاص هو إجراء شكلي، بينما الحقيقة أن المال سيذهب إلى يد السراج ومن معه.
هكذا كان النفط محور تلك الخطوة، التي وجدت من يرحب بها لإنهاء الهدنة الحالية إلى سلام وليست حربا، لكن «الذهب الأٍسود» بقدر ما دفع إلى البيانين المشار إليهما، فإنه تسبب في إبطال مفعولهما سريعاً، حين خرج المتحدث باسم الجيش الليبي ليصف بيان السراج بأنه «ذر للرماد في العيون»، ثم تأتي الأخبار الميدانية متحدثة عن تعزيز الجيش لمواقعه في سرت والجفرة، لتدق طبول الحرب مجدداً بين طرفين كل منهما يربط، من دون شك، بين السيطرة على النفط، والتحكم في زمام الأمور مستقبلاً.

* روائي ومفكر مصري