د. وحيد عبد المجيد*
 
ستظهر فداحة أثر تجميد الهيئة القضائية لـ«التجارة الدولية» عندما يَشرَع العالم في إعادة تنظيم العلاقات بين أطرافه عقب انتهاء الجائحة
------------------------------------
إذا لم يتيسر توافق أعضاء منظمة التجارة العالمية على مديرها الجديد، حتى الاثنين المقبل (31 أغسطس)، فسيكون هذا الإخفاق مؤشراً إضافياً إلى عمق الأزمة التي تواجهها. فقد تأخر التوصل إلى هذا التوافق، رغم أن المرشحين الثمانية للمنصب عرضوا برامجهم وأفكارهم وقدّموها إلى المجلس العام للمنظمة في منتصف الشهر الماضي. والمفترض ألا يستغرق التداول حولهم، وتصفيتهم تدريجياً عن طريق استبعاد مرشح تلو الآخر، وصولا إلى التوافق على واحد منهم، أكثر من شهر. وربما يتعذر، أيضاً، التوافق على مدير عام مؤقت لسد الفراغ الذي سيحدث عقب مغادرة المدير الحالي روبرتو أوزيفيدو يوم الاثنين المقبل.
وكانت أزمة المنظمة التي تراكمت تدريجياً في السنوات العشر الأخيرة بسبب الخلافات حول بعض قواعد التجارة الدولية، وفاقمتها تداعيات تفشي فيروس كورونا في الأشهر الماضية، قد دخلت مرحلة أكثر صعوبةً عقب استقالة أوزيفيدو المفاجئة قبل عام على انتهاء ولايته.
لم يفصح المدير الحالي عن أسباب استقالته، بعد أن أمضى سبعة أعوام في موقعه. لكن ليس صعباً استنتاج أن المدى الذي بلغته الأزمة قد يكون العامل الرئيسي وراء مغادرته.
سيترك أوزيفيدو المنظمة في أسوأ وضع منذ تأسيسها عام 1995. وليس مؤكداً أن من سيخلفه، في حال التواصل إلى توافق عليه، سيكون قادراً على حمل الأعباء الثقيلة، ومواجهة التحديات الجسيمة التي تنتظره، فما بالنا إذا لم يتيسر هذا التوافق.
ولا تقتصر هذه التداعيات وتلك الأعباء على البحث عن سبل لتنشيط حركة التجارة الدولية، أو الحد من التراجع الذي حدث فيها منذ تفشي العدوى بفيروس كورونا. فهذه المهمة تتطلب معالجة الأزمة التي بدأت في التفاقم عام 2018، وأدت إلى وقف المفاوضات التجارية، ووضعت المؤتمر الوزاري المُقرر عقده العامَ المقبل في مهب الريح، لأسباب أهمها تصاعد النزاع الأميركي الصيني. فقد خلق هذا النزاع مشاكلَ كبيرة، في مقدمتها تعطيل محكمة الاستئناف التابعة لهيئة تسوية النزاعات في المنظمة، بعد أن انتهت ولاية ستة من أعضائها السبعة في ديسمبر الماضي، وعرقلت الولايات المتحدة التصديق على تعيين بدلاء عنهم، واشترط الاتفاق أولا على مراجعة الثغرات التي توفر حماية لمنتهكي قواعد التجارة الحرة، وتتيح لهم الإفلات من المساءلة، كما أصرت على مطلبها المتعلق بإخراج الصين من قائمة الدول النامية، على أساس أنها أصبحت قوة اقتصادية كبيرةً لا يجوز أن تتمتع بالمزايا الممنوحة لهذه الدول.
ويتطلب الحد من هذا التراجع، وصولا إلى استعادة التجارة العالمية ازدهارها، عملا كبيراً قد لا يمكن إنجازه من دون وجود مدير كامل الصلاحيات للمنظمة المسؤولة عن هذه التجارة. فليس متوقعاً أن يعود الانتعاش إلى التجارة العالمية فور انتهاء الجائحة.
ولذا يُثار التساؤلُ عن مدى قدرة المنظمة على الصمود، بعد ربع قرن على تأسيسها، وهل تتعلق أزمتها بوجودها نفسه، وهي التي لم تتمكن من وضع نظام تجاري مستقر يقوم على خفض الحواجز التجارية، وتوفير الحماية اللازمة لتدفق السلع والخدمات. ولكي نعرف الحجم الحقيقي لأزمتها، يتعين أن نعود إلى منتصف العقد الماضي حيث كانت بداياتها الأولى، عندما أخفقت في ترتيب تفاهم دولي على قضايا محورية بالنسبة إلى التجارة العالمية، خاصةً دعم الزراعة والمزارعين، والتعامل مع الحواجز غير الجمركية.
غير أن هذه الأزمة دخلت في مرحلة جديدة مع تصاعد النزاع التجاري الأميركي الصيني في الأعوام الثلاثة الأخيرة، ثم تجميد أهم الأدوات التي تعمل المنظمة من خلالها، وهي هيئة الاستئناف القضائية. وفقدت المنظمة، بالتالي، أهم ما ميّزها عن المؤسسات والهيئات التي سبقتها في مجال تنظيم التجارة العالمية، وأهمها المنظمة التي ارتبطت بالاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة التي عُقدت في أكتوبر 1947، وعُرفت اختصاراً باسم «جات»، بهدف الحد من القيود الكمية على التجارة الدولية (تحديد كمية السلع المستوردة) وخفض الرسوم الجمركية على بعض السلع.
وكان وجود هيئة استئناف قضائية تُلزم الدول المتنازعةَ بقراراتها أهمَّ ما تميزت به منظمة التجارة العالمية على سابقتها التي أُنشئت في إطار اتفاقية «جات». وسيظهر مدى فداحة أثر تجميد هذه الهيئة في الفترة المقبلة، عندما يَشرَع المجتمع الدولي في إعادة تنظيم العلاقات بين أطرافه، بعد انتهاء أزمة كورونا، ومن أهمها العلاقات التجارية بين الدول، خاصة بعد أن دخل النزاع الأميركي الصيني مرحلة ربما تكون أخطر من ذي قبل بسبب تداعيات هذه الأزمة.

*مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية