في توقيت متزامن أعلن طرفا الصراع المحليان الرئيسيان في ليبيا في بيانين منفصلين وقفاً لإطلاق النار يوم الخميس الماضي، غير أن الأمر تجاوز الاتفاق على وقف إطلاق النار إلى أشياء أخرى كاستعادة السيادة الليبية الكاملة، وإن أشار بيان رئيس المجلس الرئاسي فايز السرّاج إلى خروج القوات الأجنبية والمرتزقة! فيما أشار بيان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح إلى قطع الطريق على أي تدخلات عسكرية أجنبية وإخراج المرتزقة وتفكيك الميليشيات. والطريف أن كلا من الطرفين يعتبر أن ثمة تدخلاً أجنبياً ضده، كذلك اتفق البيانان على استئناف الإنتاج والتصدير من حقول النفط مع إيداع عوائده في حساب لا يتم التصرف فيه إلا بعد التوصل إلى تسوية سياسية وفق مخرجات مؤتمر برلين، وإن أضاف بيان صالح «إعلان القاهرة» كمرجعية للتسوية. كذلك اتفق بيانَا السراج وصالح على إجراء انتخابات، وإن حددها السراج بأنها رئاسية وبرلمانية، بينما استخدم صالح تعبير «بناء الدولة عبر عملية انتخابية»، ولا فرق جوهرياً بين الصياغتين، لكن بيان السراج اعتبر مرجعية الانتخابات «قاعدة دستورية مناسبة يتم الاتفاق عليها بين الليبيين»، بينما استخدم صالح تعبير «طبقاً للدستور». بل إن الاتفاق بدا وكأنه امتد إلى ترتيبات تتعلق بسرت والجفرة بحديث بيان السراج عن أجهزة شرطية من الجانبين تقوم «بالاتفاق على الترتيبات الأمنية داخلها»، فيما تحدث صالح عن «قوة شرطة أمنية رسمية من مختلف المناطق» تقوم بتأمين سرت. ومع خلاف في التفاصيل، فبيان السراج يشير إلى أن الوقف الفعلي لإطلاق النار «يقتضي أن تصبح منطقتا سرت والجفرة منزوعتي السلاح»، بينما تحدث صالح عن سرت كمقر لـ«المجلس الرئاسي الجديد»، دون أن يشير لنزع سلاحها.
ويمثل ما سبق تطوراً إيجابياً واضحاً من وجهة نظر القوى المتصدية للإرهاب في ليبيا. ولا ننسى أن السراج وداعمته تركيا كانا يشترطان انسحاب الجيش الوطني من سرت والجفرة كشرط لقبول وقف إطلاق النار. كذلك كان الحديث صريحاً عن تواصل التقدم الذي حققته ميليشيات «الوفاق» حتى تحرير كامل التراب الليبي، بل والوصول إلى «السلوم»! ولا شك عندي أن العامل الرئيسي في هذا التطور هو صلابة الموقف العربي في مواجهة العدوانية التركية وأدواتها، فقد تعودت على ألا تواجه ردود أفعال لأفعالها، وتصورت أن تدخّلها في ليبيا سوف يمر بالطريقة نفسها، غير أنها واجهت اعتباراً من يونيو الماضي موقفاً عربياً صلباً تمثل أولاً في «إعلان القاهرة» لتسوية الصراع، ثم إعلان الرئيس السيسي أن سرت والجفرة «خط أحمر» بتنسيق وتأييد كاملين من الإمارات والسعودية. واشتعل الجدل بعدها حول مدى جدية التهديد واستمرت حكومة السراج وميليشياتها في التصعيد والتهديد وحشد المرتزقة انتهاءً بالتراجع الواضح على النحو السابق. ومن المؤكد أن الإدارة الأميركية والقوى الأوروبية وروسيا قد لعبت دوراً مهماً في تسهيل التطورات السابقة، لكن لولا التصدي العربي السابق لاقتصرت المعادلة على تفاهمات تضمن مصالح الأطراف الخارجية أساساً على نحو ما يحدث في سوريا.
ولا يعني ما سبق أن الطريق باتت ممهدةً لتسوية سريعة، فشيطان التفاصيل موجود كالعادة: كيف تتشكل قوة شرطة وطنية؟ وما مرجعية الانتخابات وضماناتها؟ وما مصير ميليشيات الإرهاب؟ ناهيك بالقضايا المعقدة كوضع سرت والجفرة المختلف عليه بين طرفي الصراع الليبيين الرئيسيين، وكذلك حراسة المنشآت النفطية، وموقف «مجلس الدولة» الإخواني الذي يتحدث عن فرض سيطرة حكومة السراج على كامل ليبيا! والأهم من ذلك كله مصير العدوانية التركية التي ستحاول أن تصل بالمماطلة والخداع إلى ما لم تصل إليه بالقوة، ومن هنا ضرورة التسلح بأقصى الحذر.


*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة