أبصرت هذه المرأة الاستثنائية منذ أن وعيت الحياة، وسميتها «خالتي»، كان ذاك في بداية التأتأة، وتشكل الكلمات، كانت الشاهدة على ولادتي في حارة «الربينة» المجاورة لنخيل العين وأفلاجها، والشاهدة على ولادة أخوتي التسعة، كان أبي يسميها خالتي، وكانت أمي تسميها «خالتي»، فقد ربتها صغيرة، مثلما ربت أخيها الذي سمته «سالم» على والدها، وكان خالي يسميها «خالتي»، وزوجة خالي «مريم» تسميها خالتي، وأخو أمي غير الشقيق «سعيد بن هادي» يسميها خالتي، حتى أدركت أن وصفها بخالتي يشاركني فيه الكبار والصغار، وأنها خالة الجميع، وأنها ربّت الجميع والكثير حتى أولاد أحفادها.
كانت «فاطمة بنت سالم بن حارب» ذاكرة المكان، وذاكرة الناس الأولين، لها حضورها وودها وضحكتها التي تشاطر مجالسيها، وحديثها الهامس الدافئ بالكلمات التي تطرزها بالترحيب والتبجيل والتَشَرّه على الآخر، كانت وحدها، وبقيت وحدها، سيدة مقامها وحضورها، بعض النساء هن سعة البيت، وهن دفئه، وصوته، حسّه إذا ما غاب حس الرجال، وهن رائحته المعطرة بالطيب والبخور، والكرم والجود.
ظل قلب الخالة يحب، ويربي ويشفق، ولا يميز، كانت من أولئك النساء من وطر الأولين الذين لا يتعبون من الحب، ولا يشتكون، ويعدون ابن الجار ولداً، وينكرون على بنت الجيران، لأنها غالية بنت الغالية، رزقت بولدين من زوجين، وسمت كل منهما «حمد»، كنت أراها دائماً متأنقة، وكنت أسأل أمي صغيراً: لما خالتي تحمل فنجان قهوتها معها أو تصرّه في شيلتها أينما ذهبت؟ كانت ترفه، وتحب التجمل، وتزهو بأشيائها، وتفرح كثيراً بالحياة.
عاصرت الكثير، ورأت من الدنيا الكثير، ومرّ عليها الكثير، بين أفراح وأتراح، لكنها لم تتغير أو تتبدل، فنفسها الطيبة هي التي كانت تقودها، وتقدمها للناس، عاشت حتى بلغت التسعين أو تجاوزت بقليل، وحدها السنوات الأخيرة اشتكت من أوجاع لم تكن تحبها في الجسد، واشتكت من ذاكرة كانت تراهن عليها لآخر العمر، لكن ذاكرتها الأوليّة بقيت طريّة، فكانت تتذكرني صغيراً، ولا تتذكر أسماء أولادي الذين يسمونها خالتي، تذكرني بحوادث قديمة، ولا تذكر أني زرتها في العيد، رغم ذاك كانت الأجيال تتعاقب والأبناء أصبحوا جدوداً، وهي لا تتعب من الربى والعطف والتنشئة، والكل من كان صغيراً أو كبر ظل يسميها خالتي.
خالتي.. وقد تجاوزت التسعين، وليلة رأس السنة الهجرية، قررت أن تترك ذاكرتها في رؤوسنا، وذكرها في نفوسنا، واستطابت الرحيل، لأن قلبها الكبير تعب من الحب فقط.