رغم التزام الرئيس الأميركي الانسحاب من العراق خلال ثلاث سنوات، وهي فترة اتفق عليها فريقَا التفاوض، الأميركي والعراقي، خلال حوارهما الاستراتيجي، سارعت الميليشيات العراقية إلى التهديد بمواصلة استهداف مصالح الولايات المتحدة وقواتها. ورغم أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي كان يتوقّع هذا الموقف ممّا تسمّى «فصائل المقاومة»، إلا أنه استند إلى «مصالح الشعب العراقي» في حديثه عن الوجود الأميركي وإعادة جدولته ثم إعادة انتشاره خارج العراق. ولعل المهم عنده أن هناك «للمرّة الأولى مواقف أميركية واضحة ومتفهِّمة لمطالب الحكومة العراقية»، وبالتالي فهو يأمل بتفهّم إيراني بأن هذه هي الطريقة الوحيدة لانسحاب القوات الأميركية، فليس وارداً «طردها» طالما أن الجيش العراقي لا يزال بحاجة إليها.
كانت المقاربة الأميركية العراقية لمسألة الانسحاب من البنود الأكثر حساسيةً في الاتفاق الاستراتيجي، وأمكن صوغها بدقّة بحيث لا تستفزّ إيران (كما تحبّذ بغداد) ولا تمنحها مكسباً (كما تريد واشنطن). وفيما تشكّل محاربة فلول تنظيم «داعش» دافعاً لوجود «التحالف الدولي» ومظلّته الأميركية، فإن إدارة دونالد ترامب تعتبره ضرورياً أيضاً لحماية العراق من النفوذ الإيراني. وبهذا المعنى يطمح الاتفاق الاستراتيجي الجديد لتصحيح أخطاء الاتفاق السابق (2008) الذي مهّد للانسحاب الأميركي بنهاية 2011. كان ذلك في عهد نوري المالكي الذي صادر الدولة وأساء إدارة التعايش بين المكوّنات العراقية وعندما اضطرّ لتفعيل العلاقة الاستراتيجية مع أميركا، كان «داعش» قد احتل أكثر من ثلث العراق. أما الكاظمي وحكومته الحريصان على مكانة الدولة فيبديان تصميماً على اكتساب أكبر المصالح من العلاقة مع أميركا.
أصبح أكثر وضوحاً الآن أن الوجود الأميركي في العراق هو مصلحة للطرفين، لكن إيران لم تعد تعترف بها منذ اغتيال قاسم سليماني، وكذلك الميليشيات بسبب اغتيال أبي مهدي المهندس. لكن ترامب قطع الطريق على حكومة عادل عبد المهدي، إذ هدّدها بعقوبات قاسية إن هي تحركت لتنفيذ قرار البرلمان بإجلاء القوات الأجنبية. ولو حصل ذلك لكان خنق الاقتصاد العراقي. لذا يقول قريبون من طهران، إن لا مصلحة لها في أن تُفرض عقوبات كهذه، لأن العراق هو متنفّسها الوحيد حالياً. 
فُهمت مهلة الثلاث سنوات على أكثر من وجه، منها مثلاً أنها حدٌّ أقصى مفترض للتوصّل إلى تسوية أميركية إيرانية، لكن طهران تتطلّع إلى فشل ترامب في الانتخابات ملوّحةً بأن «التسوية» ستكون ممكنة مع منافسه جو بايدن. ومنها أيضاً أنها فترة زمنية ضرورية لدعم استعادة الدولة واستكمال تأهيل القوات المسلّحة العراقية، وهما عنصران أساسيان في مشروع الكاظمي.
ذهب الكاظمي إلى واشنطن بهاجسين، تطوير القدرات الدفاعية والأمنية ودعم إنهاض الاقتصاد.. وبتوجّسين من أن تُستغَل زيارته في الصراع مع إيران، ومن أن تكبّل أي مساعدات عسكرية واقتصادية بشروط صعبة. ما حصل أن إدارة ترامب أكدت من جهة رهانها عليه وعلى تمكين حكومته من تحقيق إنجازات، وبرهنت من جهة أخرى أنها تريد فتح العراق أمام المستثمرين لتطوير قطاع الطاقة ودعم الاقتصاد، بدليل العقود مع ثمانٍ من كبريات الشركات والوكالات، مع استعداد صندوق النقد الدولي لتأهيل بعض القطاعات. لكن هذا لا ينفي الصعوبات على أرض الواقع، فأي تحسّن اقتصادي يتطلّب وقتاً، ثم إنه مرهون بالمناخ الأمني وبانحسار سطوة الميليشيات.

*محلل سياسي -لندن