عوامل متعددة تتحكم في قياس القوة السياسية بكل مكوناتها الاقتصادية والثقافية والعسكرية. وإدارة هذه العوامل مجتمعة ومتشابكةً أشبه ما تكون بإدارة أوركسترا كاملة، وهي تصبح أصعب وأكثر تحدياً في أزمنة الاضطراب والتغير وإعادة التشكل.
لا أحد يشكك في أن منطقة الشرق الأوسط تمر باضطراباتٍ كبرى وتغييرات جذرية في العقود الأخيرة، منذ انتهاء الحرب الباردة واحتلال العراق للكويت وظهور تحدي الإرهاب المنتسب للإسلام بتفجيرات الحادي عشر من سبتمبر وما بعدها وصولاً للربيع الأصولي واتساع عمليات المستعمرين الجدد في المنطقة والرهان على السلام عوضاً عن نشر استقرار الفوضى.
لم تعد حسابات قوة الدول وضعفها تخضع للمعايير التقليدية فقط، بقي البشر قروناً وهم يحسبون مساحة الدولة واحداً من عناصر قوتها الأساسية وقد تعلم البشر اليوم أن هذا غير مؤثرٍ إلا بقدر ضئيل وأوضح الأمثلة على هذا دولة إسرائيل، هذه الدولة الصغيرة جغرافياً والتي وقفت للدول العربية مجتمعةً من المحيط إلى الخليج وخرجت منتصرةً.
القوة الاقتصادية للدول لا تقل أهميةً في حسابات القوة والضعف فمن يمتلك أسلحة باهظة الثمن واقتصاداً مهترئاً سيضطر يوماً لارتكاب الحماقات واستخدام السلاح كمخرجٍ من الأزمات، وهو ما صنعه صدام حسين بعد انتهاء حرب الخليج الأولى باحتلاله دولة الكويت، وهو السبب المباشر في خروج العراق من كل معادلات القوة لأكثر من عقد من الزمان انتهى بإسقاط حكم صدام حسين وحزب «البعث» نهائياً، وهو ما يصنعه اليوم أردوغان، حيث لم يعد يرى من عناصر قوته سوى الجيش والسلاح بعدما ضمن شخصياً تدمير اقتصاد بلاده بشكل منهجي ومستمر منذ سنواتٍ تدرج فيها في حكم تركيا حتى حوّل الدولة بأسرها لمشروع خاص، يخدم طموحه الشخصي، وستظل تركيا سنواتٍ للتخلص من الوهاد التي أسقطها فيها بعد رحيله وانقضاء حكمه. جزء كبير ومهم من عناصر القوة اليوم يكمن في بناء العلاقات الناجحة والصحية مع كثير من الدول المهمة والفاعلة والانخراط في التحالفات القوية والمؤثرة، لا بمعنى القوة العسكرية الخشنة فحسب، بل قوة السياسة والدبلوماسية والاقتصاد، وقوة العلم والمعرفة والمعلومة، والتي عند دمجها معاً يتحدد معنى القوة ويتم قياس مواقع الدول فيها.
ليست قلة العدد أو صغر المساحة عنصراً للضعف فقط، بل على العكس فقد تكون كثرة العدد وبالاً على الدول وتحدياً حقيقياً ومعيقاً قوياً للتنمية، التي من دونها تنقلب بعض عناصر القوة لعناصر ضعفٍ، وكم كان ممكناً أن تكون الضفة الغربية نموذجاً للنجاح بمساحة صغيرة وحكومة رشيقةٍ ودعمٍ لا محدود من الدول العربية ودول الخليج تحديداً، ولكن ما جرى في التاريخ الحديث يحكي العكس تماماً.
بعض البشر يعيش حياةً طويلةً مليئةً بالهزائم بالقوة الخشنة والقوة الناعمة، فيعيشون حسب وصف الكاتب الروسي الكبير ديستوفيسكي «مُهانين مُذَلّين» تقبع الهزائم في أعماق نفوسهم دون بصيص أملٍ ولا همة عملٍ، بل إدمان الشحاذة والعيش عالة على البشر الآخرين واستمراء الأخلاق العفنة من الاستجداء والاستغلال والاسترزاق والفساد العريض.
هذه الفئة من البشر لا تعرف أن تعيش إلا بالخضوع التام لجهة، والتنمر المزدري والفاشل على جهة أخرى، وليس أقبح من محاربة مستعمر بالخضوع لمستعمرٍ جديد، كما تفعل «حماس» في غزة وقادتها، كالزهار تسخر من فلسطين وقضيتها علناً.
يقضي بعض المأزومين بالتاريخ والمثقلين بالخيارات الفاشلة التي هرموا عليها نهايات حياتهم في جمع أكثر ما يستطيعون من المال وفي التطهر من كل الفساد التاريخي بشتيمة الآخرين من الأصدقاء والمؤيدين، وهم يتذكرون نومهم الطويل في حضن عدوٍ لا يريدون لأحد أن يتعامل معه إلا عن طريقهم.
*كاتب سعودي