هناك جهود مهمة ودعوات صادقة لتعزيز مكانة اللغة العربية وتطوير أدوارها، لاسيما في مجالات التعليم والمعرفة والصناعة والعلم والإدارة.. وذلك بالنظر إلى كونها عنصراً من عناصر النهضة ومظهراً من مظاهر النضج والقدرة على تجسيد الهوية الوطنية.
وكما لاحظ كثيرون، فإن هناك في العديد من البلدان العربية أجيال أصبحت عاجزة عن فهم لغتها القومية، ولا تكاد تجيد القراءة والكتابة والتعبير عن نفسها إلا باللغات الأجنبية.. لذلك قد يأتي يوم تصبح فيه اللغة العربية لغة ثانية في هذه البلدان، ما لم يتم تدارك الوضع باعتماد سياسات تعيد للغة القومية مكانتها في مجالات الحياة المختلفة، خاصة في ميادين التعليم والإعلام والعلم.
ولبيان أهمية اللغة القومية كعنصر أساسي في أي نهوض حضاري، يمكن أن نذكّر بالتجارب الثلاث التالية:
1- اليابان: مع انفتاحها على الغرب، بادرت اليابان لتأسيس «هيئة تطوير اللغة اليابانية»، وأصرت على عدم التخلي عن شخصيتها القومية، وحافظت على نقاء اللغة اليابانية التي تعتبرها المقوم الأساسي لهويتها وجعلتها لغة علم وتعليم ومعرفة وتكنولوجيا. ورغم المصاعب والتعقيدات الكثيرة التي واجهوها في ذلك السبيل، فقد رفض اليابانيون التخلي عن لغتهم، وجعلوا التعليم في كل مراحله باللغة اليابانية، وقاموا بتأسيس أكاديمية علمية لغوية تُعنى بترجمة المصطلحات العلمية الغربية ونقل أمهات المراجع والأبحاث العلمية إلى اللغة اليابانية ووضعها بين أيدي العلماء والباحثين اليابانيين بلغتهم الأم. ولم تمر عقود قليلة حتى تجاوز اليابانيون عملية النقل لعلوم الغرب إلى عملية «هضمها» وتمثلها، ثم ما لبثوا أن باتوا سادة التكنولوجيا العصرية.
2- الصين: كانت تعتمد على اللغة الإنجليزية، لكن بعد الثورة الثقافية التي أطلقها «ماوسي تونج»، أصبحت اللغة الصينية هي اللغة الرسمية والمهيمنة في كل مجالات الحياة، رغم أنها كانت تعاني من تعقيدات في كتابتها. إلا أنه رغم الصعوبات الكثيرة في هذا المضمار، فقد رفض الصينيون التخلي عن لغتهم واستطاعوا خلال 30 سنة أن يؤسسوا تنمية اقتصادية واجتماعية وعلمية فريدة، وتمكنوا من إيجاد الحلول لكثير من مشاكل المجتمع، بل فجرت الصين قنبلتها الذرية، وصنعت الصواريخ العابرة للقارات، وأرسلت الأقمار الصناعية ودخلت عصر الفضاء.
3- كوريا: في سنة 1946 وجدت كوريا الجنوبية نفسها في وضع تسيطر فيه اللغة اليابانية سيطرةً كاملةً على الحياة الكورية، فأصدر قادتها قراراً تاريخياً بأن تكون كل الأنشطة في كوريا باللغة الكورية، فبحثوا عن العارفين باللغة الكورية، ولم يجدوا إلا عدداً قليلاً من العجزة وكبار السن في الأرياف البعيدة، فأحضروهم للمدن وكلفوهم بتعليم مبادئ اللغة الكورية للمثقفين من معلمين وأطباء ومهندسين وإداريين.. إلخ، وسرعان ما أصبح التعليم في كوريا، بكل مراحله من الابتدائية إلى الجامعة، باللغة الكورية. وخلال عشرين عاماً تحولت هذه اللغة التي كانت شبه بدائية إلى لغة علم ومعرفة وصناعة، وأصبحت كوريا واحدة من أكبر الأسواق الصاعدة ذات الصناعات العصرية المزدهرة. 

*كاتب إماراتي