في مثل هذه الأيام من كل عام، ومنذ سنوات طوال كانت «أصيلة» المغربية على موعد مع الجميلين والمبدعين من شتى بقاع العالم، فقد صنع ابنها البار «محمد بن عيسى» من مهرجانها محجاً، ومن «أصيلة» قبلة سياحية، وذات صيف كنت مدعواً للمشاركة كمتحدث في مهرجانها الثقافي والفني، فحرصت كعادتي التي أحبها، ولا أريد أن أتخلى عنها، على عدم إرباك المضيف أو إضافة تكاليف على السفير وطاقم السفارة، كما يطيب للكثيرين فعلها، وجعلهم يأمرون بسيارة تنتظر في المطار، ورجل علاقات عامة، قد يكون منهكاً ذاك النهار، وربما لم يكن على ما يرام مع «المدام»، ويكلف بانتظار ضيف لا يعرف وجهه نهار الجمعة، وحدها تلك اللوحة الورقية المتهالكة، والتي كتبت بخط رديء، وعلى عجل، يمكنها أن تدله على تلك الجثة التي تسحب ثلاث حقائب، فيها أشياء كثيرة غير ذات جدوى، لكنها مرتبة بعناية فائقة، لا تقدر عليها النساء، بحيث القبعات في جانب، والأحذية نائمة في أكياسها المخملية، ولكل يوم لبستان، صباحية ومسائية، وتكفي لأيام طوال، كل هذه التفاصيل سيختصرها موظف العلاقات العامة بابتسامة مجبر عليها، وبشد اليد بحرارة مبالغ فيها، ثم ترمى حقائبك التي تزهو بعلامتها التجارية، وكأنها صناديق فواكه «خامجة» منذ أسبوع، وسيتكلف بالحديث والترحيب الذي ملّ منه طوال الطريق من المطار إلى الفندق، لذا حضرت وحدي، وبحسب وقتي، خفيفاً، مريحاً، مرتدياً ملابس صيفية رياضية، فيها زهزهة الصبا، ولون الشباب المرح، لطبيعة المدينة، وصيفها البحري، ولأن فعاليات المهرجان طابعها غير رسمي، لذا خاب ظن الذين يتوقعون حضورك بزيك الرسمي، وصورتك النمطية، لأنك مفرز من دول الخليج النفطي، لكنك كنت متأبطاً تلك «الكاميرا» كشاب مهاجر إلى أميركا اللاتينية، خفيف التحرك، لاصطياد لقطات، أعدها من أجمل الأشياء التي أظفر بها أثناء السفر، فتصرفت بطبيعتي التي أود دائماً أن أكون فيها غير مثقل على النفس، ولا على الناس المضيفين، لكن موظفي المهرجان، وبعض المشاركين العتاة، والسنويين، والجهات الإعلامية لزموا حيالي التجاهل التام، ومعاملتي على أساس أنني مصور فوتوغرافي جاء ليغطي الفعاليات، وشاب قليل الخبرة، كما توحي ملابسه الكتانية ذات الألوان الذاهبة باتجاه المرح والمشاغبة وقلة الحيلة، وأنه ربما يفضل أن يجلس في قهوة على الرصيف مع بعض السائحات الأجنبيات على أن يملأ رأسه الفارغ بمصطلحات أدبية ونقدية، كالسيميائية والأنطولوجية والديماغوجية.
في البداية لم أعر المسألة اهتماماً، فقد تعودت على مثل تلك النظرة السطحية، والحكم الأوليّ، بحكم المشاركات الكثيرة في المؤتمرات، لكن مع انقضاء أيام المهرجان الأولى، وتلك المعاملة غير المكترثة، وما تولده طريقة التعامل بمكيالين، وشروط الأفضلية التي كنت أجهلها عند موظفي العلاقات العامة، ومسؤولي المهرجانات الذين يفضلون لابسي ربطات العنق في الصيف، والخجل الذي يضع الإنسان الحساس عالياً، ولو على حساب النفس والكيس، قلت: في المدينة بحر، وإرث، وأسواق، وحِسان يبرّدن على الفؤاد، فلِمَ أضع القلق وسط كل هذه الأشياء الجميلة؟ لأعش أيامي هنا، كما تهوى النفس، فليس أثقل عليها من الغداء بورقة «فاوشر» أو أكل بوفيه شبه بارد، وبايت من الأمس.. ونكمل