تألمنا جميعاً لما حدث لبيروت الجميلة من دمار شامل لثلث المدينة تقريباً، تلك الكارثة التي كان بالإمكان تفاديها لو كانت هناك حكومة فاعلة تتحكم في مفاصل الدولة، بما فيها المفاصل الاقتصادية، وتديرها بصورة مهنية وآمنة.
لبنان للأسف يأتي ضمن العديد من البلاد العربية، كالعراق واليمن، حيث صادرت الميليشيات مؤسسات الدولة، بما فيها الاقتصادية، والتي أصبحت ضحية للأعمال الإجرامية لهذه الميليشيات المدعومة من الخارج، والمتمثل دورها في النهب والتخريب بصورة أساسية، إذ يلاحظ أن هناك قواسم مشتركة بين عملها، والتي تأتي ضمن برامج وضعتها القوى الإقليمية الداعمة لها، والمتمثلة أساساً في السيطرة على البنية الأساسية لمنافذ الاقتصاد المحلي، إذ نلاحظ أنه في الدول الثلاث المشار إليها، عمدت الميليشيات منذ البداية إلى السيطرة على المنافذ البرية والبحرية والجوية بصورة كاملة، حيث حدث ذلك في لبنان واليمن والعراق.
ففي لبنان يسيطر «حزب الله» على مرفأ بيروت ومطارها وعلى الحدود البرية الوحيدة مع سوريا، كما تسيطر ميليشيا «الحوثي» في اليمن على مطار صنعاء وميناء الحديدة والحدود البرية، وكذلك الأمر في العراق، حيث يحاول رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إعادة سيطرة الدولة على هذه المنافذ.
ولكن مهلاً، لماذا تركز الميليشيات الموالية للخارج على السيطرة على حركة المنافذ؟ تساؤل مهم، لأن ذلك يتيح لها بناء اقتصاد ظل موازٍ، بل وربما أقوى من الاقتصاد الرسمي، حيث يشكل أكثر من 60% من إجمالي الاقتصاد المحلي في بعض هذه البلدان، مما يؤهلها، أي الميليشيات للحصول على الجزء الأكبر من العوائد الجمركية لتمويل برامجها التدميرية، وتسهيل تجارة المخدرات وغسيل الأموال والأسلحة والسلع الممنوعة، والتي تحقق من خلالها عوائد هائلة، كما يتيح ذلك التحكم في القطاع التجاري، الذي تتدفق منه السلع والخدمات لباقي القطاعات الاقتصادية، بما فيها القطاع المصرفي والمالي، في حين تقف الدولة إما عاجزة كما هو الحال في اليمن، أو متواطئة بالحصول على عمولات، كما هو الوضع في لبنان والعراق.
يؤدي ذلك إلى خراب الاقتصاد الوطني وتدمير بنيته الأساسية ومرافقه الاقتصادية، وذلك لأسباب عديدة، يأتي في مقدمتها الجهل المظلم لهذه الميليشيات، والتي يقودها أشخاص غير مؤهلين وغير مهنيين، معظمهم خريجو المعاهد الدينية المتخلفة، وبالتالي، فإن إدارتهم للمنافذ عشوائية يسودها الفساد وسوء الإدارة، والذي يترتب عليه كوارث مدمرة، كالتي حلت ببيروت الأسبوع الماضي.
وإضافة إلى ذلك، يقوم اقتصاد الظل الموازي بتخريب مرافق الاقتصاد الرسمي، من خلال حرفه عن مساره، وحجب معظم العائدات المالية عنه، بما في ذلك المساعدات الخارجية التي يذهب معظمها لجيوب المتنفذين من القيادات الميليشياوية، إذ يؤدي ذلك إلى حرمان الاقتصاد من رؤوس الأموال والاستثمارات اللازمة للنمو، وبالتالي تتقلص الوظائف، وترتفع معدلات البطالة والتضخم، وتتدهور باستمرار مستويات المعيشة للمواطنين المغلوبين على أمرهم، والذين لا يملكون القوة لوقف نهب وتخريب الميليشيات بسبب العنف، الذي تمارسه والتصفيات الجسدية التي تقوم بها ضد كل من يحاول الوقوف في وجهها.
وكما يُقال (قبطانان في سفينة تغرق)، خصوصاً إذا كان أحدهما قرصاناً متمرساً في النهب! مما يصعب الحل، والذي يمكن فقط من خلال هيمنة الدولة ومؤسساتها، ليس المنافذ فحسب، وإنما على مكونات الاقتصاد ككل ووضع حد للفساد، وإدارة الاقتصاد بمجملة بصورة مهنية، من خلال مؤهلات علمية متخصصة، وضمن قوانين وتشريعات يحافظ من خلالها على موارد الدولة، وتسخيرها لخدمة التقدم والتنمية، أما قيادات الميليشيات التي تمسك بزمام الإدارة الاقتصادية حالياً في البلدان المشار إليها، فإنها تجيد بصورة مذهلة النهب والقتل والتخريب والفساد والإدارة السيئة للمرافق بصورة غير مهنية.
لذلك، فإن الفترة القادمة ستشهد للأسف المزيد من الأحداث المشابهة لكارثة بيروت، فنترات ألأمونيوم وغيرها من المواد المتفجرة والأسلحة مخزنة في كافة هذه البلدان بصورة سيئة قابلة للانفجار في أية لحظة، مما سيسبب المزيد من فقدان أرواح الضحايا والدمار الاقتصادي، وضياع الثروات والفرص التنموية. 
*مستشار وخبير اقتصادي