من بلد «الأزمات» و«الحروب» و«الثورات» و«الوصايات المتعاقبة» و«الانهيار الاقتصادي والسياسي» و«تلاشي الجمهورية»، والديمقراطية وحتى «الهوية»، إلى بلد النكبات. اليوم، كأن لبنان أيوب القرن الحادي والعشرين، تزاحمت عليه النوائب، وتلاحمت، لتتوجها نكبة أخرى، هي كبراها. لكن أين؟ في بيروت «ست الدنيا»، وعاصمة الانفتاح، والحضارة، والعروبة: أهو انفجار صاعق في العنبر 12 بمرفأ بيروت؟ أم هو هزة أرضية بقوة 4,6 ريختر؟ أم هو ما يشبه قنبلة ذرية تذكرنا بهيروشيما؟
قد يكون انفجار بيروت كل هذه التسميات معاً، وبكل ذلك الخراب والدمار اللذين امتدا بعيداً، من بيروت إلى الضواحي، إلى الساحل، بشعاع عشرة كيلومترات.
شيء يشبه الأبوكاليبس «الحشر والنشر»، تساقط فيه الجرحى والقتلى من المباني وتحتها وعلى امتداداتها وساحاتها ومنازلها ومحالها وصروحها التراثية، ومؤسساتها. زرتُ صباح اليوم التالي ميادين هذه الحرب الغامضة، ويا ويلي! لم يسبق أن رأيتُ مثل هذا الخراب، حتى في أعنف معارك الحروب السابقة. بيروت التي نعرفها لم تعد موجودة. المباني تساقطت، المحال احترقت أو تحطم زجاجها، سيارات تبدو كتلاً سوداء.. ومازال هناك ضحايا تحت الأنقاض أو في البحر أو بين الطوابق المتراكمة على ركامها، لا شيء واقفاً، النوافذ بلا زجاج، مبنى الكهرباء مهدم تهديماً، جريدتا «النهار» و«الشرق الأوسط» أصابهما خراب عميم، لا بيروت ولا ما يتبقى منها سوى صرخات هنا أو أبواق سيارات الإسعاف أو طائرات هليكوبتر تجوب الأمكنة حتى البحر بحثاً عن مفقودين. المستشفيات فاضت بجرحاها وموتاها، وفقدت قدرتها على الاستيعاب: نحو 160 قتيلاً (حتى الآن) وستة آلاف جريح. أناس أمام محالهم المحطمة يحرسون ما تبقى منها، عشرات الأبنية التراثية متضررة، متصدعة، أو منهارة.. تاريخ كامل ينقرض، جغرافيا تتغير.. أسماء شوارع ضاعت، معالم انشرخت، وسائل الإعلام تتحرى آثار القنبلة، وتسائل المتضررين، وجلهم يحمّل السلطة مسؤولية ما جرى.
لكن، ماذا جرى؟ هل يعرف أحد ما جرى؟ ما الذي انفجر في المرفأ؟ ومَن فجّره؟ هل هي ضربة إسرائيلية قصفت مخزونات سلاح «حزب الله» في المرفأ الذي يسيطر عليه أصلاً، كما أشارت جريدة «هآرتس» الإسرائيلية؟ الروايات الرسمية بدأت تتفتق بالأسباب للتضليل: تعرض العنبر رقم 12 في المرفأ لحريق أدى إلى انفجار «مفرقعات» نارية.. حديث صبية! لكن رواية رسمية أخرى تنفي هذه «الرؤيا» العجائبية حول كلام المفرقعات المثير للسخرية!
إذن ماذا؟ مواد شديدة الانفجار تمت مصادرتها من ست سنوات، صادرتها الجمارك وأودعتها العنبر.. ست سنوات في العنبر؟! 
رواية رسمية أخرى: المواد هذه من نيترات الأمونيوم، أُهملت بلا صيانة، فتعرض جزء منها للتلف.. وأثناء معالجتها من قبل الموظفين، انطلقت شرارة وفجّرتها!
كل هذه التحليلات الرسمية جفاها الناس، لعدم ثقتهم بأصحابها، واعتبروها ذرَّ غبار في العيون. وانطلاقاً من فقدان الثقة بالسلطة، طالب بعض المعارضين أن يحال التحقيق إلى مجلس الأمن أسوةً بقضية اغتيال رفيق الحريري، أو إلى لجنة دولية عربية.
أما اجتماع مجلس الدفاع الأعلى في القصر الجمهوري، فقد تمخضت عنه قرارات روتينية لا تقدِّم ولا تؤخر بانتظار اختيار «كبش محرقة» (كموظف صغير) ليحمِّلوه مسؤولية ما جرى.
نصف بيروت ممحو، المرفأ فقد حتى آثاره وملامحه، حوالي 300 عائلة بلا مأوى.. والسلطة تحاول أن تضلل الرأي العام، لتذكِّرنا بما فعلته بعد اغتيال الشهيد الحريري، حين عبثت بمسرح الجريمة ونقلت كل السيارات ومحالها إلى كاراج رسمي! 
كل ما يصدر عن هذه السلطة مشكوك فيه! فما بالك بتحقيقات تطمس حقيقة ما جرى.