ما جرى لبيروت، ومن دون أية مبالغة، لم يجرِ لعاصمة في الدنيا، في تاريخ ما بعد الحرب العالمية الثانية، فهذه المدينة التليدة التي كانت تسمى «مدينة الشرائع»، ويعود تأسيسها إلى القرن الـ15 قبل الميلاد، تعد المدينة الثانية المأهولة في التاريخ بعد مدينة دمشق. توجّعت بيروت كثيراً عبر تاريخها المعاصر، وتألم شعبُها على نحو لا يحتمل، ولعل صخرتها الشهيرة، الأشبه بوجه بحار قديم، تحكي لمن يستنطقها حكاية صمودها الأسطوري في وجه الغزاة القادمين عبر البحر. دائماً ما كانت بيروت تنهض بعد كل كبوة، فكل الأحداث التي وقعت لها، بدءاً من حادثة الباص سنة 1975، إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وصولاً إلى كارثة المرفأ في الرابع من أغسطس الحالي.. كانت تخرج منها منتصرةً لحريتها وعيشها المشترك وعروبتها وتاريخها وحضارتها. هذا ديدنها منذ انتزاع لبنان لاستقلاله في 31 ديسمبر 1946 وحتى اليوم وغداً وما بعد غد. بيروت تظل عصيّة ولا يمكن أن تكون إلا نفسها، والعالم اليوم لن يرضى بغير بيروت الحرية والكتاب والفنون، والصوت المرتفع في فضائها العربي. هي مدينة ليس لها شبيه: تُمسك بتلابيب القساة المتوحشين فتقلّم أظافرهم، والحاقدين فتغسل قلوبهم، والأرواح المستنفرة فتهذّبها بالفنون، ثم تدعوا الجميع إلى مقهى على «الروشة» ليستمعوا إلى أغاني فيروز، ويتناولوا قهوتهم الصباحية بسلوك متحضر. تمر اليوم بيروت بين ألمين: ألم الكارثة وما خلّفه من قتلى وجرحى ومشردين وأيتام ونازحين.. وألم الحكومة الكسيحة التي فشلت أمام شعبها والعالم في استعادة هيبة الدولة ومكانتها، وتأمين غذاء المواطن وصحته. حكومة أطاح بها الفساد قبل أن ينتصر عليها شعبها الغاضب، فيعزلها وينتزع منها حق التحدث باسمه إلى العالم. لينفتح بذلك الباب أمام الخارج كي يدخل، ويبسط شروطه الجاهزة للتنفيذ. وتلك مشكلة كبيرة، فاللبنانيون بعدما تلقوا صدمة وعي بجرعة كبيرة، لم يعودوا كما كانوا قبل الانفجار، والخارج لن يكون رحيماً بحلوله التي سيفرضها قريباً. لا أحد اليوم في لبنان بمقدوره الوقوف بوجه انطلاقة الخارج المُجحفل بأكثر من هدف وغاية، خاصةً أنه يعلم هوية الفاسدين الذين دأب على استقبالهم، والتحدث معهم، وألمَّ بكامل الملفات ونقاط الضعف. والسؤال: هل ثمة وقت للتخلص من الطائفية التي تحمي الفساد وتنميه؟ هل يمكن استعادة الـ120 مليار دولار المسروقة؟ وهل ثمة خيار للدولة اللبنانية إلا أن تكون أو لا تكون؟.. الكلمة الفصل بيد الشعب اللبناني.