في أعقاب الانفجار الكارثي لمرفأ بيروت وزيارة الرئيس الفرنسي لها، ذكرت الأنباء أن قرابة أربعين ألف لبناني وقّعوا عريضة تطالب بعودة الانتداب الفرنسي على لبنان، الذي فُرِض عليه بعد الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من ضآلة نسبة أولئك المطالبين (أكثر قليلاً من نصف بالمائة)، فقد أثارت هذه المطالبة جدلاً واسعاً في لبنان وخارجه. ولا ننسي أن نظام الانتداب قد فُرِض على الأقاليم التي لم تبلغ بعد الدرجة التي تمكّنها من الاستقلال بنفسها، أي أن فترة الثمانين عاماً، التي انقضت على استقلال لبنان، قد ذهب سدى. ويقدر المرء الظروف العصيبة التي مر بها لبنان لعقود، والتي بلغت ذروتها في الآونة الأخيرة. غير أن وصول الأمر إلى حد المطالبة بعودة الانتداب له دلالاته التي ينبغي التوقف عندها، مع العلم بأن فكرة عودة الاستعمار أو إعادته ليست جديدة، وقد ظهرت للمرة الأولي في مطلع عقد الستينيات من القرن الماضي، أي في ذروة عقد التحرر الأفريقي. فقد نشر الباحث الفرنسي رينيه ديمون، في عام 1962، كتاباً بعنوان «البداية الزائفة في أفريقيا»، كان جوهره التحفظ والتخوف على أفريقيا بعد الاستقلال. وقد هوجم الكتاب بشدة، لاسيما أن كاتبه كان محسوباً على المتعاطفين مع حركات التحرر الوطني. وبعده بحوالي ثلاثة عقود، خرج المفكر الأفريقي على المزروعي بأفكار عن عودة الاستعمار، خلاصتها أن بعض الدول الأفريقية غير مؤهلة للاستقلال الذي نالته، على أساس أنه تحول إلى استقلال شكلي لم يمنع من السقوط في براثن الحروب الأهلية والمجاعات والفساد، وغيرها. وقد تعرض المزروعي بدوره لانتقادات لاذعة، وربما تذكرنا هذه الأفكار بمقولة المفكر الجزائري مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار»، بمعنى الرضوخ الداخلي العميق للاستعمار، الناجم عن إقناع المستعمِر (بكسر الميم) للأفراد المستعمَرين (بفتحها) بتفوقه عليهم وعدم قدرتهم على إدارة حياتهم من دونه، ودونيتهم في كل شيء. غير أن «بن نبي» لفت إلى أن القابلية للاستعمار قد تنتج عن صفات عقلية ونفسية ترسخت في أمة معينة، تجعلها تفشل في القيام بفعل النهوض، وبالتالي تشعر بالدونية تجاه الآخر المتفوق حضارياً. ويرى البعض أن هذه الفكرة مستمدة من الفكرة الخلدونية عن «ولع المغلوب بتقليد الغالب»، مع التأكيد على أن «بن نبي» طرح أفكاره في سياق مناقشة معضلات التحرر والتغلب عليها، وليس تحبيذ الاستعمار بطبيعة الحال.
وكما حدث في السابق من ردود فعل للأفكار التي لوحت بعودة الاستعمار، أثارت المطالبة بعودة الانتداب الفرنسي جدلاً واسعاً لم يتوقف عند الحدود اللبنانية، وإنما اشتعل على مواقع التواصل الاجتماعي في عدد من البلاد العربية، وكشف الجدل عن تراشق فكري حاد بين معسكرين، أحدهما على أقل الفروض متفهم لهذا المطلب، بالنظر إلى التردي الفادح في الأوضاع اللبنانية الداخلية، وفي الحد الأقصى متحمس بالفعل لعودة الإرادة الأجنبية، بينما المعسكر الثاني يعتبر أن هكذا دعوة ترقى إلى مرتبة الخيانة الوطنية، وينبه إلى أن الأصل في الأوضاع الداخلية المتردية هو المعادلة التي أنشأتها الإرادة الدولية، والتي استمر تأثيرها بشكل أو بآخر، حتى ذكر البعض صراحةً أن الانتداب الفرنسي والسيطرة الخارجية عامة لم ينتهيا يوماً، أي أنهما جزء أصيل من المشكلة وليس الحل. والواقع أنه مهما بلغ التردي في الأوضاع الداخلية لبلد ما، لا يمكن تخيل أن يكون الحل باستدعاء المستعمِر القديم الذي وُثِّقت جرائمه في الذاكرة الوطنية وفي كتب التاريخ، وإلا ما كانت حركات التحرر الوطني قد قامت وانتصرت، المستعمر الذي لم يُنسَب له إنجاز تنموي حقيقي يُذكر.. وإنما الحل يكون بالتغيير من الداخل واستئصال النفوذ الخارجي، وما أصعبها من مهمة في لبنان.