حين رأيت الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يزور المناطق التي لحقها الدمار في بيروت، اجتاحني عدد من المشاعر المتناقضة. فقد أسعدني أنه ذهب مباشرة إلى مواقع الانفجارات كبادرة قوية على احترام معاناة الناس والمدينة. وأغضبني ألا يصحبه أحد من مسؤولي الحكومة اللبنانية. وأذهلتني جماعات اللبنانيين الذين ظهروا ليعربوا عن شكرهم لإقرار ماكرون بآلامهم وغضبهم، وليعبروا عن احتقارهم لزعمائهم الفاشلين. وتضاربت مشاعري مرة أخرى حين أعلن ماكرون أن فرنسا ستعقد مؤتمراً للمانحين لتقدم المساعدة للبنانيين على شرط تنفيذ إصلاحات حقيقية. 
وصرح ماكرون قائلاً «سأقترح اتفاقاً سياسياً جديداً في لبنان وسأعود في الأول من سبتمبر، إذا لم يستطيعوا تنفيذه، سأسحب مسؤوليتي السياسية». وهذا جعلني أشعر بالحزن والغضب معاً، لأنه في مواجهة الفساد الذي أضاع على البلاد مليارات الدولارات والخلل الوظيفي السياسي الذي أصاب لبنان بالشلل، تطلب الأمر مأساة هائلة وضغطاً من الرئيس الفرنسي كي تمضي البلاد قدماً في تنفيذ إصلاحات. فلم يكف مئات آلاف من المحتجين في مظاهرات متواصلة ولم تكف أزمة كوفيد-19. ولم يكف أيضاً أزمة اقتصادية تركت كثيرين من اللبنانيين في حالة فقر ويأس. 
فرغم كل هذه التحديات المضنية، ظلت الحكومة مترددة والنخب لا تحرك ساكناً والجماعات المسلحة، ومن بينها «حزب الله»، ظلت ترفض الإصلاح و«تحرس ذاتياً» جماعاتها المنفردة بالتهديد باستخدام القوة ضد المحتجين. وواصل لبنان مسيرته البطيئة نحو الموت. ولذا، من المثير للقلق أن غطرسة الفرنسيين الذين أقاموا لبنان وسيطروا عليه بنظامهم الطائفي العدائي هم من يطالبون بإصلاح البلاد. لكن في الوقت نفسه، اعترف ببعض الشعور بالراحة بأن هناك أخيراً شخصاً ما يتقدم ويقول «يتعين عليكم الإصلاح وإلا». لكنه شعور مرتبك بالارتياح مصحوب بضيق لأن الإنذار جاء من الفرنسيين، خاصة لأن هذا كان مطلب حركة الاحتجاجات الحاشدة طويلة الأمد منذ خريف عام 2019. 
والعام الماضي، في غمرة الاحتجاجات التي امتدت عبر البلاد ضد الفساد، تلقيت تكريماً من منظمة مساعدات إنسانية لبنانية. وبدأت كلمتي بترجمة كلمات الشاعر الكبير جبران خليل جبران التي يقول فيها «لكم لبنانكم ولي لبناني». فأنا أحب، مثل جبران، الشعب اللبناني وشعره وفنه وأغانيه وحبه للحياة. وأحب روحهم المضيافة السخية. وأحب ما قدمه لبنان للعالم، خاصة شعبه الموهوب. وأحب الجمال الأخاذ للبلاد وجبالها الشامخة المتوجة بالثلوج وشواطئها الجميلة. وأنا، مثل جبران، لا أحب السياسيين المتناحرين المتصاغرين الذين يتصدرون القيادة بحكم الميلاد والوراثة وكفى. ولا يمكنني أن أؤيد نظام الامتيازات الطائفية في البلاد والفساد المتوطن في النظام السياسي الاقتصادي الذي اعتصر لبنان لمصلحة أشخاص بعينهم. وأرفض الميليشيات المسلحة- سواء كانت مسيحية أو مسلمة أو علمانية- التي عذبت في الماضي كل من يعارض هيمنتها، وما زالت تفعل هذا في الحاضر. وأخبرت الجمهور أن لبنان الذي أحبه يتمثل في الشوارع التي تخرج منها أصوات تطالب بإصلاحات جذرية، والقضاء على الطائفية والنخب الفاسدة المتناحرة والحكم بالقوة المسلحة. 
وعشية الاحتجاجات، سقطت الحكومة لكن حل محلها أخرى تشبهها إلى حد كبير. والاقتصاد في حالة مزرية يتهاوى بلا سند. وما زالت القيادة لا تستطيع القيام بالإصلاحات المطلوبة. وقد يسأل المرء: «كيف يمكنهم الإصلاح وهم المشكلة؟» 

وأتذكر هنا أنني أجريت استطلاعات رأي في لبنان، على مدار العقود القليلة الماضية، وكانت النتائج ذات دلائل واضحة. فاللبنانيون من كل الطوائف يريدون أن يكون لكل شخص صوت انتخابي بلا تمييز. ويرفضون الحكم الطائفي وطغيان الميليشيات. وهم قلقون من التدخل الأميركي والإيراني في شؤونهم الداخلية. وبعبارة أخرى، يريدون إصلاحات. وبناء على كل ما سمعته منذ الانفجارات في ميناء بيروت، فقد تحول اللبنانيون من خيبة الأمل في حكومتهم إلى اليأس في إمكانية التغيير. 
أصبح اللبنانيون غاضبين لكن يائسون في الوقت نفسه بسبب انهيار الاقتصاد والافتقار إلى السيطرة على سياساتهم الداخلية والخارجية والخلل الوظيفي الحكومي الذي لا يبالي بحاجاتهم وتطلعاتهم، كل هذا إلى جانب جائحة مرضية وأزمة لاجئين مستمرة أرهقت الموارد المحدودة. أعتقد أن هذا هو سبب الغضب الشديد الذي ردوا به على حضور ماكرون في موقع يمثل أحدث ما يواجهونه من مواجع. صحيح أن فرنسا قد لا تكون راعياً محتملاً للتغيير، لكن زيارة ماكرون مثلت استجابة للجماهير وتعاطفاً معهم. لكن يجب ألا يكون الفرنسيون وحدهم هم الذين يقفون إلى جانب الشعب اللبناني في المطالبة بالإصلاح الأساسي وإعادة هيكلة نظام الحكم. 
ويجب أن يقدم مؤتمر المانحين المقترح مساعدة آنية لدعم المحتاجين، ويطرح صفقة طويلة الأمد لإعادة البناء، تشترط تحقيق الإصلاحات المطلوبة. وهذا سيقوي الحركة الشعبية في لبنان ويحيي أملها من خلال الشعور بأن لديهم حلفاء يقفون بجانبهم على الطريق الطويلة لإنقاذ وإحياء وإعادة بناء البلاد. لكن لا تحسبن الطريق إلى المستقبل سهلاً. فالنخب الطائفية لن تتنحى جانباً وكفى، ولن يوافق «حزب الله» ببساطة على إنهاء تهديده باستخدام السلاح ضد الذين يطالبون بالتغيير. لكننا بلغنا مفترق طرق. فإذا أردنا إنقاذ لبنان الذي نحب، يجب أن نلحق الهزيمة بلبنان الذي لا نحب. إما هذا أو قد يموت لبنان.
رئيس المعهد العربي الأميركي- واشنطن